العدد 3287 - الثلثاء 06 سبتمبر 2011م الموافق 07 شوال 1432هـ

الانفجار المعجزة والدولة الغنائمية

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

ثمة سجالٌ دائرٌ بين المفكرين والساسة للوقوف على دينامية حراك الشارع وما يفرزه من تحديات أمام المجتمعات العربية الماضية على ما يبدو بثبات وإصرار نحو التغيير الديمقراطي.

اللافت أن هناك من يتحدث عن الحراك بصفته ظاهرة انتفاضات أو ثورات أو انقلابات، ويتجاوزها بعضهم للتنظير لـ «مرحلة انتقالية» باعتبار أن فعل الثورة منجز أو يكاد، بينما يكتفي آخرون بوصفه «حراكاً اجتماعياً» أو «سياسياً» أو «احتجاجات»، إلا أن اللافت أيضاً وصف الفيلسوف الماركسي سلافوي جيجك الانتفاضات الشعبية العربية بـ "المعجزة"، فضلاً عن حيرة وعجز الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية في تفسير توقع تلك "الانفجارات" التي زعزعت أمن واستقرار المنطقة، كما وصفها رئيس وزراء "إسرائيل" بالزلزال.

في كل الأحوال يتشكل السجال من رحم النظر للواقع العربي، ويتعمق يوماً بعد يوم بمقاربة مدى تطابقه مع المفاهيم التي أنتجتها المجتمعات الحداثية المعاصرة. لا شك تفاعل بعض السياسيين وباحثي علم الاجتماع الجادين ونشطاء المنظمات الدولية والإقليمية ومؤسسات المجتمع المدني الآن في سياق تعرفهم على دلالات ومضامين هذه الدينامية بتعقدها وتشابك عناصرها، إنما يسعون لتحديد مواقفهم تجاه ما يحدث من تغير وتحديث، واستخلاص الدروس والعبر مما فاتهم وسبر أصل المعضلات التي تعترض مسار عملية التحول الديمقراطي، إضافةً لاجتراح الوسائل والقيم والمعايير الداعمة للحراك وتعزيز مساراته.

في هذا الصدد، يتفق العديد من هؤلاء الباحثين والناشطين على صعوبة التفكير والاستشراف لواقعة "الانفجار/ المعجزة" في أزمنة التحول والتغيير، وهم لذلك يستنجدون بمناهج البحث العلمي ومحاولة استحضار الحيادية والموضوعية كأدوات لدراسة الظاهرة. من هؤلاء اللبناني أديب نعمة، الذي خلص في بحث له إلى أن "طابع حراك الثورات العربية طابع سياسي داخلي بامتياز"، نافياً وجود "أجندات سياسية خارجية"، منوّهاً إلى تميّز الحراك العربي الراهن بالحضور القوي والطاغي للشعب - أي الناس - في فضاء الفعل التغييري. فمادياً هو في الساحات والميادين، وخطابياً هو المحرك لسقف المطالب، وهذا برأيه يستوجب قراءة مسار التطور المجتمعي خلال العقود الثلاثة الأخيرة للتعرف على ترابط العوامل وتراكمها التي أوصلت لحالة "الانفجار/ المعجزة"!

إذن هو حال "الانفجار المعجزة"، الذي لم يستشعر توقيته وزخمه وعفويته بعض ساسة مجتمعاتنا وباحثيه في علم الاجتماع بشكل جدي من ناحية أخرى، لاسيما ممن نظروا في الديمقراطيات العصية وملأوا الساحات الإعلامية ضجيجاً بتحليلاتهم الغريبة والشاذة في تفكيك توصيف علاقات قوى المجتمع وبنيته الاجتماعية التي قسمت بين مفاهيم المدينة والأرياف والمذهبية والقبيلة والعشيرة وما إلى ذلك، وابتسار دينامية الحراك والصراعات وتطويع مساراتها بحسب الأهواء والاتجاهات الرغائبية خدمةً لأغراض آنية ضيقة في أفقها السياسي والمصلحي. وهذا ما وصفه أديب نعمة بقصور الإنتاج الفكري والسياسي العربي خلال العقود الأخيرة الذي "لم يكن يتوقع الانفجار الذي حدث بعد تراكم عناصره تحت السطح".

وبالمقابل، يذهب فواز طرابلسي إلى القول بأن "بحث أزمات المنطقة كان يجري في حقل آخر، بأدوات بحث واستخبار لا تصلح لمثل ذلك الرصد، إذ هيمن على حقل البحث خطاب عالمي مهيمن تبلور بعد الحرب الباردة، وتكرس بعد هجمات سبتمبر/ أيلول . خطاب النيوليبرالية المتعولمة وأجندتها المتكاملة والمستبطنة في المنطقة من سلطات ومؤسسات وقوى مدنية وأهلية وأحزاب ومثقفين". كيف؟

الخطاب برأي طرابلسي، تعمّق بحثاً عن الهويّة بمنظورها الثقافي الديني للشعوب والمجتمعات فتعممت مقولة "الاستثناء الإسلامي"، وساد الحديث في السياسة عن نظرية المجتمع المدني/ الدولة والنقصان الديمقراطي. أما في الاقتصاديات فجرى الحديث عن تفكيك الدولة التنموية وفرض الخصخصة ودكتاتورية الأسواق، والتسليف الجزيئي (الميكروي) والتربية على ريادة الأعمال. واجتماعياً كثرت أبحاث احتساب معدّلات الفقر، لا الفروقات الاجتماعية، وكذا التبشير بالشفافية ضد الفساد وطمس كلّ منوعات الاستغلال وأولوية الأمن ومحاربة الإرهاب. حدث ذلك برغم جهود بحثية وفكرية مبذولة عن "القنبلة الديموغرافية ومعدلات البطالة"، بيد أن "الانتفاضات الشعبية" كشفت الغطاء عن خلل الخطاب المهيمن وانتقدت الممارسات المتعلقة بمقولات "الديمقراطية، والمجتمع المدني والدولة، وفرص العمل للشباب، والفساد"، وأضيف عليهم من عندياتي: شعارات تمكين النساء سياسياً وسيادة دولة القانون والمواطنة وممارسة حرية الرأي والتعبير...إلخ. الحراك عرّى الأنظمة الحاكمة العربية والنخب السياسية والثقافية وأماط اللثام عن نوازعها الغامضة، بل وأظهر قصورها وتنكّرها وبُعدها عن نبض الشارع وآماله.

فيما خص ذلك لم يبتعد الباحث أديب عن تحليل طرابلسي، فنوّه إلى الفشل الكوني المتمثل في أزمة الديون وانطلاقة العولمة النيوليبرالية في "عقد التنمية الضائع"، إذ تحوّلت في التسعينيات إلى إيديولوجيا خالصة أشبه بالدين، واندفاع العولمة السياسية والثقافية لبناء عالم أحادي القطب والعودة إلى استخدام الحروب والسياسة لتوفير المصالح الاقتصادية وفشل النظام في حل مشكلاته عبر آلياته الاقتصادية، وعسكرت العولمة بعد اعتداءات سبتمبر 2001، والحرب ضد الإرهاب وصدام الحضارات وتعمقت أزمة النظام الرأسمالي بتحوله إلى "اقتصاد وهمي"، يعتمد على قوة السلطة السياسية والإدارية للدولة من أجل ضمان عوائده.

ومع أن منطلقات أديب لتحليل "الانفجار/ المعجزة" قد ركّزت على البعد الاقتصادي، إلا أنها لم تقتصر عليه كعنصر محرك وحيد، ولاحظ كما باحثين جادين آخرين، "وجود شبه تآكل لشرعية الدولة والنظم الحاكمة، وفقدانها للقاعدة الاجتماعية والسياسية التي بنت عليها شرعيتها التاريخية". فهذه الدولة بحسب وصفه، تحوّلت إلى صيغة فجة من الدولة الاستبدادية من النمط المافيوي - الأمني، ولاسيما أن تحوّلها تمّ في إطار العولمة النيوليبرالية، التي ساهمت بمؤثراتها الأخيرة ودفعت بتغيرات قسرية اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية فرضتها على المجتمعات العربية، وتفاعلت بدورها وتراكمت وشكلت بيئة محفزة لحالة "الانفجار" والمطالبة بالتغيير السياسي والاجتماعي. واستدرك بقوله إن الطابع الريعي للاقتصاد وتآكل الديمقراطية داخل بلدان المركز الرأسمالي نفسه هي سمة للنظام العالمي السائد، وليست سمة للاقتصاديات العربية فقط، وهو ما أدى إلى تشكل دولة عربية متآكلة أطلق عليها تعبير "الدولة الغنائمية" الجامعة لسمات الاستبداد والريعية والفساد، ونموذجها الأبلغ هو الدولة الأمنية - المافيوية التي اختزلت السلطة والدولة في شخص الحاكم ومن حوله، وتوحّدت فيها السلطة والمال والدولة خارج أية رقابة قانونية وشعبية.

وماذا بعد؟

يورد أمين معلوف في مؤلفه "اختلال العالم" عبارة تجيب على سؤال "ماذا بعد؟" مفادها: "رفاقي في السفر، المركب الذي نحن على متنه بات بعد الآن هائماً على وجهه، بلا طريق، ولا مقصد، ولا رؤية، ولا بوصلة، في بحر هائج، وأنه لابد من صحوة، ومن حالة طوارئ تفادياً للغرق... الزمن ليس حليفنا، وهو القاضي الذي يحاكمنا، ونحن منذ الآن محكومون مع وقف التنفيذ"!

فعلاً... تحدٍ نوعي يمس مجتمعاتنا العربية وشعوبها المتحركة في مهب عاصفة "الانفجار المعجزة"... فهل نتعلم الدروس؟

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 3287 - الثلثاء 06 سبتمبر 2011م الموافق 07 شوال 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 6:09 ص

      غنايم

      كلها غنائم يا سيدتي. اختك مثلك. بس الحال لن تدوم.

اقرأ ايضاً