العدد 3290 - الجمعة 09 سبتمبر 2011م الموافق 10 شوال 1432هـ

صاحب جدلية التوراة من جزيرة العرب

محمد حميد السلمان comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كان يرى باقتناع تام أن نصوص الكتاب المقدس عند المسيحيين واليهود هو تراث إنساني قابل للبحث والنظر، كما كان يقر بأن المسيحيين - ولم يحدّد أسماء أي منهم - تجرأوا على نقد نصوص الكتاب المقدس برمته أكثر مما فعل اليهود بالنسبة إلى الجزء العبراني منه الذي يختص بهم. وبين سنوات ولادته في بحمدون في الثاني من مايو/ أيار 1929 من والدين من المذهب البروتستانتي، ووفاته في الفاتح من سبتمبر/ أيلول 2011؛ كانت له مواقف جريئة ضد الادعاءات الصهيونية في أرض فلسطين، وخصوصاً من خلال كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب». مع أنه هو شخصيّاً قد اعترف قبل وفاته بخمس سنوات، العام 2006، في مقدمة الطبعة السادسة لكتابه الآخر «خفايا التوراة»، أنه قد وردت أخطاء تفصيلية وخصوص في كتاب «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، وذلك عن طريق إعادة النظر في مجموعة من القصص التوراتية المألوفة في ضوء جغرافية جزيرة العرب.

هناك من يعتبره من أبرز المؤرخين اللبنانيين المعاصرين، وآخرون يعتبرون دراساته التوراتية وأبحاثه عن أصول يسوع المسيح مازال يعوزها الكثير من البراهين والحجج العلمية حتى تستقيم وتجد لها مكاناً ما بين المراجع المعتد بها في الدراسات الأكاديمية والعلمية الموثوقة.

وكعادة المؤرخين العرب الذين يتصدّون لمشكل التاريخ الديني والأساطير التراثية غير المحققة حتى اليوم؛ فإنهم يواجهون بجولات شرسة من قبل الوعاظ الكهنوتيين وأصحاب النظريات الثابتة في تراثنا الإنساني، وبالذات في الديانتين المسيحية واليهودية. ولذلك فقد تصدت له أقلام يهودية ومسيحية تكذب ما يقول، وكذلك إسلامية تسخر من أطروحته، إلا أنه التزم الصمت ولم يرد إلا على الأقلام العلمية البحتة فقط، ولا يدير فكره لغيرها لأنها من وجهة نظره كانت أقلام التأريخ التقليدي المستند إلى مرويات غير حقيقية، وشخصيات أسطورية أو خيالية لم يثبت أو يتأكد من وجودها أساساً. فهو كان ضد شخصنة الأساطير التراثية باسم بعينه تخلق له هالة معظمة مبنية على تمجيد كهنوتي غير واقعي تماماً، يدعمها في غالب الأحيان السلاطين أو رموز الاستكبار العالمي وربيبتهم الصهيونية في فلسطين.

هذا هو كمال سليمان الصليبي، الأستاذ الجامعي والمؤرخ اللبناني الذي حصل على دكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط، من دائرة دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا بجامعة لندن بإشراف البروفيسور (برنارد لويس). قدّم أبحاثاً عدة عن تاريخ لبنان والعالم العربي، وتاريخ التوراة والإنجيل. رئيس دائرة التاريخ وعلم الآثار في الجامعة الأميركية في بيروت، وبقي مدرساً جامعيّاً فخريّاً فيها حتى وفاته. وهو من مؤسسي المعهد الملكي للدراسات الدينية، وله العديد من الأبحاث التاريخية من أشهرها نظريات جديدة عن جغرافيا وشخصيات التوراة ومنها السيد المسيح التي أثير حولها الكثير من الجدل.

ونقف معه في هذه الزاوية لا لسرد تاريخ حياته، بل لعلاقة ما كتبه وفكّر به وحلّل فيه رأيه من تاريخنا الماضي وتغلغله في قناعاتنا المعاصرة الحياتية والدينية بشكل خاطئ كما هو يعتقد. نقف معه لعلاقة ما كتبه المؤرخ الراحل بما يحدث في الشارع الشبابي العربي اليوم وطريقة تفكير هؤلاء الشباب في تاريخهم ومحاولة كتابته وصياغة جمله من جديد من منظور العقلية الشبابية العربية المتمردة على التراث السلاطيني الذي كبّلها طويلاً، وحجر عليها باسم مورثات ران عليها الدهر وتكلس حتى صارت أيقونات مقدسة يحرم الاقتراب منها أو لمسها، فكيف بهدمها وتفتيت أحشائها لإظهار لبّ الحقيقة من كبدها.

هؤلاء الشباب بحاجةٍ اليوم إلى إعادة قراءة آثار هذا المؤرخ الفكرية، لا من باب التبنّي القسري لها، ولكن من باب عشق النقد والتحليل لمكونات تاريخنا العربي، والبحث عن الحقائق المغيبة فيه، وخصوصاً ذاك الذي أشبع بالإسرائيليات التي أثرت على فهم تاريخنا الإسلامي أيضاً لدرجة أضحى البعض حتى اليوم يصر على أن أضلاع الرجل هي 23 ضلعاً، لأن المرأة هي الضلع الرابع والعشرون والأعوج من الرجل ولا يقبلون بخلاف ذلك.

نتوجه لفكر الصليبي من باب تحريك الفكر النقدي وليس التسليم به، بل بنظرة النقد الموضوعي المحفز للفهم العميق واليقيني لتاريخنا وليس تقديس الموروث المليء بأخطاء وأساطير الأولين التي وجدت زمن الآباء والأجداد، والتي بات يروج لها اليوم تلك التماثيل المتربعة على تخوم فكرنا اليومي وهي تسبّح بفضل الصهيونية الديمقراطية، وتخلخل تفكيرنا لقبول وجود الصهاينة في مجتمعاتنا العربية وضرورة التعامل معهم لأنهم يهود إخوة لنا في أديان اهلى جميعها!

لقد تمكن كمال الصليبي من عدة لغات قديمة سمحت له بالاطلاع على الوثائق الأصلية بلغاتها الأم، ومن هنا استطاع أن يقدم أدلته على ما يقول بشأن الاسرائيليات المدسوسة في تاريخ العالم حول فلسطين بالذات. عاش في وسط الجامعة الأميركية بين كوكبة من المؤرخين والمثقفين العروبيين، وتأثّر بهم وأخذ من فيضهم من أمثال قسطنطين زريق، ونبيه أمين فارس، ونقولا زيادة، وغيرهم. ثم توجّه لاحقاً إلى نقد الأساطير المكوِّنة للأيديولوجيا الصهيونية، فجاءت مؤلفاته «التوراة جاءت من جزيرة العرب» (1985)، «خفايا التوراة»، و»أسرار شعب إسرائيل» (1988)، و»من كان يسوع» بالإنجليزية (1989)، وصدر بعنوان: «البحث عن يسوع» بالعربية (1999)، و»حروب داوود» (1991). وأخيراً كتب مذكراته الشخصية بعنوان: «طائر على سنديانة» العام 2002، وبلغت مؤلفاته جميعها 12 كتاباً.

وانطلق الصليبي في كتاباته من فكرة أن كثيراً من تراث الديانات الثلاث كتب بالاستناد إلى موروث غيبي، متوارث من السلف كان للإسرائيليات دور أساسي في نشرها عبر الكتب التاريخية التقليدية والمعتمدة لدى الجانب العربي. وتلك تضمنت كمّاً هائلاً من المرويات الإسرائيلية التي كان مصدرها الرئيس أساطير التلمود والتوراة، وغيرهما من الأساطير التي اعتقد الصليبي جازماً أنها تفتقر بالكامل إلى الأمانة والدقة فيما نقلت.

وقد أثارت كتابات الصليبي حول أن التوارة وأصحابها خرجت من سراة عسير أو الحجاز بشكل عام، ردوداً غربية عديدة دعمتها صرخات الصهيونية العالمية وعلماء التوراة المنغلقين على تفكيرهم الخاص في تكذيب ما أورده الصليبي عن أن أرض الميعاد ليست فلسطين. ومن هؤلاء البروفيسور (Philip C. Hammond) من جامعة (Utah) الذي لم يوافق على ما جاء به الصليبي في أطروحته حول أن التوارة خرجت من جزيرة العرب، واستغرب لصدور الكتاب بأكثر من لغة.

بينما في الجانب العربي، أخذت أفكار الصليبي بلباب العديد من الباحثين عن الحقيقة التاريخية في أرض فلسطين وسط الكم الهائل من الأضاليل والزيف، فتعلقوا بها، ومن هؤلاء باحثون في البحرين أيضاً كما في الوطن العربي. ولذا ظهرت كتابات تتناول العديد من أسرار التوارة واليهودية على يد عبدالمجيد همو، على سكيف، زكي الغول، وغيرهم مع مطلع القرن الحادي والعشرين. ولكن ربما وقع الصليبي ومن تبع مدرسته في أخطاء الخصوم نفسها أو المرويات التاريخية غير المثبتة والمدعمة بالأدلة المادية على الأرض والتي ثار عليها هو أساساً. وذلك لعدم وجود أدلة حفرية قاطعة على ما يقوله، ومعظم أدلة الجميع حتى اليوم هو تشابه أسماء الجغرافيا في التوراة مع مناطق قديمة اندثرت في شبه الجزيرة العربية وذكرت في أمهات كتب التراث العربي مثل «جزيرة العرب» للبلاذري. وفي هذا السياق يوجه الباحث الكاهن والأكاديمي اللبناني جورج مسّوح في صحيفة «الحياة» نقده لفكرة الصليبي تلك بقوله: «يعتمد كمال الصليبي في معظم مؤلفاته الكتابية (الكتاب المقدس لدى المسيحيين بعهديه القديم والجديد) على بناء نظرية أسس لها في كتابه (التوراة جاءت من جزيرة العرب). تقوم هذه النظرية على المقارنة ما بين أسماء المناطق الفلسطينيّة والشامية الواردة في الكتاب المقدس ورد أصولها إلى منطقة عسير والحجاز في جزيرة العرب. وبناءً على ذلك، لم تنشأ التوراة، وفق أقواله، في فلسطين بل في الجزيرة العربية. تشابه الأسماء جعل الصليبي يبتدع أسطورة جديدة في حاجة إلى أدلة قوية كي تصبح يقيناً قاطعاً. والمؤرخ يكبو، بلا ريب، حين يصبح راوي أساطير، وحين يجعل التاريخ صراعاً بين أساطير.»

فهل كمال الصليبي كذلك حقّاً؟ سؤال يحتاج إلى وقفة أخرى تفصيلية

إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"

العدد 3290 - الجمعة 09 سبتمبر 2011م الموافق 10 شوال 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 8:50 ص

      السلام عليكم

      قرأت بضع صفحات من الكتاب , حتى الأن أرى في كلامه الكثير من المنطقيه و إن كان يحتاج لأدله أكثر دقه , لكن كتابه يعتبر حجه قويه ضد الصهاينه و أساطيرهم المزعومه فلا هم من بني إسرائيل أصلا و لا يمتون اليهوديه بصله سوى بالمظهر !
      و شكرا

    • زائر 1 | 11:22 ص

      تاريخ

      التاريخ مادة جميلة، وموضوع مشوق. تسلم على هذا الطرح الذي يأخذنا إلى مساحات أخرى.

اقرأ ايضاً