يعد مصطلح «العولمة» أحد أكثر المصطلحات المحدثة التي وقع بشأنها جَدَلٌ ودَجَلٌ كبيرين بين الباحثين، وهو يندرج تحت ما يطلق عليه الفلاسفة بالمفهوم المُشَكِّك الذي يختلف فهمه وتصوره من شخصٍ لآخر لكُلِّيَّتِهِ، فتتعدد الأفهام بتعدد زوايا النظر، وكذلك بتعدد المكوَّن النفسي رفضا أو قبولا، والخلفيات الأيديولوجية.
وما أسهم في تكريس مشكِّكِيَّةِ هذا المفهوم أيضا تعدد صوره ومصاديقه الخارجية، وسعة انتشاره زمانا أو مكانا.
هذه الورقة تستثمر مُسْتَتْبَعاتِ العولمة وتربطها بصياغة المنهج الدراسي، انطلاقا من التعريفات المتعددة للعولمة بين المتشائم والمتفائل والمعتدل. ولا تقف الورقة عند المصطلح بمختلف تجلِّياته، إذ إنَّ الخوض في مفردة العولمة على المستويين اللغوي والاصطلاحي من الموضوعات التي قُتِلَت بحثا وأُشْبِعَت تناولا.
يضع المناطقة شرطين أساسيين يجب توافرهما في التعريف الصحيح، وهما الجامعيَّة والمانعيَّة، فلا بد أن يكون التعريف للمصطلح جامعا «يجمع عناصره وأفراده»، ومانعا «يحول دون دخول الأغيار وبذلك يحصل التمايز». وهناك اتجاهين متباينين سعة وضيقا، وقِدَما وحداثة، لوضع تعريف علمي للمنهج، هما:
- الاتجاه القديم الذي يؤطر المنهج بإطار الوثيقة الكتابية، التي تصف الأهداف، وتضم المعارف والخبرات والأنشطة مع تقييمها، وهذه رؤية قديمة.
- الرؤية المعاصرة التي توسع دائرة المنهج الدراسي ليشمل كل ما تقدمه المدرسة لطلابها من مهارات وخبرات وأنشطة ومعارف، تؤهل المتعلم وتعدل سلوكه وفق أهداف وخطط زمنية محددة، وتنقسم إلى قسمين ظاهر ومخفي.
قيل قديما «وراء كل أمة عظيمة منهج تربوي عظيم»، إذ إن عملية وضع وتصميم وصياغة المنهج الدراسي عمليَّةٌ شائكةٌ ومعقدةٌ، وذات تشعباتٍ كثيرةٍ، وتحتاج إلى حالةٍ تخصصيةٍ من الطراز الراقي. السؤال المطروح هنا كيف نستفيد من معطيات العولمة في صياغة المنهج الدراسي؟ وكيف نفرغ السلبيات والتحديات ونستثمر الإيجابيات في الصالح التربوي العام؟. هنا لن يتم تناول الشرائط العامة في وضع المنهج وإنما ما تقتضيه العولمة مع إفرازاتها.
يتعين على المنهج تنمية الجوانب الانفعالية لدى الطالب، إذ تمثل حالة من التحفيز والمُحَرِّكيَّة تلقاء المزيد.
لكي يتم تصحيح مسارات المناهج وتطويرها لا بد من إخضاعها لعمليات جراحية يجريها أهل الاختصاص بأدوات البحث الممنهج دوريّا لتحسس مدى مواكبتها لروح العصر. وفي عالمٍ متسارعٍ ينبغي أن نسرع في غربلة المناهج وتغيير ما يجب تغييره بصفة تحمل طابع السرعة. وهكذا فإن المنهج ضمن عصر العولمة _ في عمومه_ هو صحيفةٌ يوميةٌ يغلب عليها الطابع الاستهلاكي.
أحد مهمات المناهج إعطاء النظرة الكلية للعلوم وتكامل المعرفة وترابط عناصرها وتداخل مكوناتها. وفي عصر تشابك المعارف نحتاج إلى عملية تنسيقية بين المناهج المختلفة بتفريعاتها كما نحتاج لإبراز هذا الترابط لتحقيق المنظومة التعليمية التكامليَّة.
من الحلقات المفقودة في مناهجنا الدراسية، الحلقة التي تربط المدرسة مع مؤسسات التعليم العالي على نحو من التكامل السلسل المتماسك.
قد يحصل نوعٌ من المنافرة بين المنهج الدراسي والواقع العملي الخارجي، ولو بنحوٍ جزئي.
يجب الاهتمام باللغة العربية التي تمثل اللغة القومية والسعي لجعلها منتجة، وفي المقابل هناك ضرورة لإدماج اللغة الأجنبية بقوةٍ وتدريسها بدءا بالمراحل الأولى، إذ تمثل لغة العلم والمعرفة والحضارة _ بلحاظٍ معيَّنٍ _.
هناك حاجة إلى اتصال إيجابي مع المؤسسات العلمية والأكاديمية التعليمية وغير التعليمية، مثال ذلك مشاركة مؤسسات المجتمع المدني من نقابات وجمعيات وهيئات علمية متخصصة وأفراد مختصين، بل يمكن إحداث شراكة مع الأساتذة وأولياء الأمور، عدا عن الاستفادة من التجارب المختلفة محليّا وإقليميّا وعالميا.
إنَّ التقليديَّة والكلاسيكيَّة شاخصةٌ بقوة في المناهج العربية، وتحمل نزعة ماضويَّة لا تتماشى مع الاحتياجات الفردية والمجتمعية والتحديات الحالية وامتداداتها المستقبلية، والسبب يعود إلى المؤسَّس النظري الذي يطرح قضية «العودة اللامشروطة للتراث أو للقيم»، والذي حصل أن هذه العودة بارحت مكانها ولم تتحرك نحو البعث والإحياء، من هنا عمد البعض إلى تبني المنهج الغربي بكل مكوناته وإسقاطه على الإحداثيات المحلية، فتقليد الغرب ومحاكاته في تصوراته وممارساته التربوية قصد حرق المراحل واللحاق بركب الحضارة العالمية أدى إلى إحداث حالة من الاغتراب والعزلة، كونها لا تتفق مع خصوصيات الواقع المحلي.
ماذا نفعل إذا؟ الجواب: لا بد من وسطية واعتدال، فلا يمكننا استنساخ المناهج مهما كانت مترقية في الجودة والفرادة وتطبيقها بحذافيرها على واقعنا القائم لأن الإحداثيات ومواطن الإسقاط تختلف.
جميلٌ أن تكون هناك حصةٌ خاصَّةٌ من المنهج الدراسي تتصل بالمجتمع وظروفه وقضاياه وحاجاته.
المعارف في سيرورة نماء طبيعية، سواء اتصلت بموضوع المنهج مباشرة، أو كان لها مسيس العلاقة بآليات وأسس وضع المنهج، ومثال الأخير تطور العلوم الإنسانية التي لها دخالةٌ مباشرةٌ في تأسيس المنهج الدراسي.
لا بد من ملاحظة مواصفات الاعتماد الأكاديمي التي يتعين على المنهج الارتقاء إليها ليكون صالحا للتدريس في أية مؤسسة أكاديمية عالمية.
من الأهمية البالغة بمكان وجود الأساس الفلسفي الواضح والدقيق والمعمق للمنهج الدراسي ومن ثم تصميم المنهج على ضوئه. ما يحصل لدينا هو المنافرة والابتعاد بين المنهج والأساس الفلسفي الذي وضع له فلا بد أن يسبقه لا أن يلحقه، وأن يتواءم معه بعدها.
تفرض العولمة ما يسمى بالتعليم الإلكتروني، بأنواعه المختلفة المتزامن وغير المتزامن، والمدمج، وغيرها، سواءٌ على نحو استقلالي أو تبعي.
أحد مباني العولمة جَعْلُ المبتكرات التكنولوجية والمعارف العلمية مشاعة بين جميع الشعوب، واليوم يجري الكلام حول الأمية الشاملة التي تتضمن الجانب التقني.
ما يخصص للبحث العلمي من الموازنات والإمكانات في الوطن العربي شحيحٌ جدّا، وهناك إحصاءات مخجلة في هذا الصدد، وإذا وجد دعم فإنه ينصبُّ على المرحلة الجامعية، والحق أننا نحتاج إلى تهيئة الأرضية من البدايات، وترسيس المناهج البحثية في المراحل المبكرة، نعم تتعمق الرؤية في المرحلة الجامعية وتكون أكثر شمولا واستيعابا.
ترتفع أصوات المثقفين بالدعوة إلى الحفاظ على الخصوصية الدينية والتراثية والوطنية والثقافية من الذوبان والتلاشي. التجديد في الفكر القومي أو الديني أمرٌ مهمٌّ ولا بدَّ منه، ولكن لا بد من إيجاد بديلٍ حضاريٍّ منافس، ومنافسٍ بقوةٍ. التعليم المتوائم يفي بالغرض، وهو التعليم الذي يحقق التكامل بن الخصوصيات الثقافية، وبين متطلبات المنظومة الحضارية المعاصرة، التعليم الذي يعالج جدلية الثابت والمتغير، في عصرٍ أصبحت عملية الغزو الفكري والثقافي، ومحاولات التغريب الممنهجة واضحة ومنكشفة للعيان.
يؤكد عددٌ غير يسيرٍ من الدراسات على ضرورة انتهاج عدد من الأساليب والتدريب على كفايات معصرنة أهمها حل المشكلات عن طريق التحليل والنقد والربط بين الأسباب والنتائج، والتعلم الذاتي الذي ينمي الشعور بالمسئولية والقدرة على الإنجاز والتحكم، والتعليم التعاوني الذي ينمي التعاون والمنافسة والعمل بروح الفريق الواحد، والتعلم بالاكتشاف والابتكار، والتعلم بالتدريب، والتعلم عبر استثمار حواس المتعلم، وعبر ورش العمل والمشاريع والعصف الذهني وغيرها.
تطرأ على الواقعين المحلي والعالمي مفهومات ترتبط بالحياة القائمة والقادمة، ما يجب أن يكون له نصيبٌ في محتوى المناهج.
أحد إفرازات العولمة الخطيرة تمثلت في غياب المعايير الأخلاقية والقيم السلوكية، كالتكافل والتضامن الاجتماعي، بحكم عوامل وأسباب عديدة، وهناك دراسات سيسيولوجية معمقة في هذا الموضوع. من هنا كان لا بدَّ للمنهج أن يؤكد على هذه القيم صراحة أو ضمنا، وهناك خطوات محلية في الاتجاه الصائب تسهم في ربط الطالب بواقعه ومجتمعه، وتذكي عنده الجذوة القيمية. ومن ضمن تلك المشروعات مشروع (خدمة المجتمع) بغض النظر عن التقييم الموضوعي لهذا المشروع.
أدت العولمة في بعض معطياتها إلى «شيوع مظاهر الاغتراب، كاليأس والوحدة والخوف والاكتئاب والقلق والخواء الروحي»، إضافة إلى بعض الانحرافات السلوكية. من هنا يراد للمنهج تنمية وتعزيز الرقابة الذاتية لدى المتعلمين، وغرس مفاهيم الدين والقيم الإنسانية.
هناك مقترحات تساعد في الانفتاح على الآخر _ بكل ما تستبطنه هذه المفردة في جوفها من تنوعٍ _، كتعليم اللغات وتدريس تاريخ الحضارات أو ما يعبر عنه بالجغرافيا البشرية، وتشجيع الحوار والتعايش بين الثقافات، وتخطيط البرامج التي تساعد الطلاب على التسامح والتعددية ونبذ العدوان والعنف والتعصب والخوف من الآخر.
تقول النظرة القديمة إن المعلومات المتراكمة تعني زيادة المعرفة، والرؤية الحديثة تختلف معها جذريا، وتوجّه إلى إتقان أدوات المعرفة، والاهتمام بالنوع والكيف لا أن يكون الكم في المقام الأول. لأعلِّم الطالب أولا كيف يعرف لا ماذا يعرف، اليوم تقوم العملية التعليمية على تخزين المفاهيم والكليات والعلاقات، لا الأرقام والبيانات وتفاصيل الجزيئات.
تعاني كثيرٌ من مناهجنا من هزالٍ وضمورٍ على مستوى المادة العلمية وثرائها، وهو ما لا ينسجم أبدا والتفجر المعرفي والتدفق في عالم المعلومات. في المنتصف الثاني من التسعينات تشير الإحصاءات إلى أن هناك 10 آلاف مقالة علمية تأخذ طريقها يوميّا إلى النشر كما يصدر مليون كتاب ومليون دورية سنويّا في مختلف دول ولغات العالم. إن على المنهج مواكبة التقدم العلمي والتطور المعرفي في جميع الميادين ومختلف الأصعدة.
على المنهج المدروس أن يفي بمتطلبات السوق العالمية، وألا ينحى نحوا نظريّا بعيدا عن التطبيق العملي، وما سيترتب على هذه الدراسة من وظائف مستقبلية يشغلها الطالب، سواءٌ على المدى القريب أو البعيد.
العملية التعليمية في ماهيَّتها تكامليَّةٌ تفاعليَّةٌ، تتضافر فيها العناصر المكونة من الأستاذ والطالب والمنهج لتفضي إلى المخرجات الجيدة.
المنهج الدراسي وجودة الإخراج
نؤكد على توافق الشكل مع ما يقتضيه العصر فمراعاة الإخراج واعتماد المعايير الفنية الراقية أصبح من الأمور التي لا محيص عنها.
@ ورقة بحثية بشأن العولمة والمنهج التعليمي
العدد 2484 - الخميس 25 يونيو 2009م الموافق 02 رجب 1430هـ
ماشاءالله
نفسي اجد موضوع مباشر عن العولمه وتأثيرها على سير المناهج التعليميه