«المصالحة الوطنية» مصطلح جميل جداً، يحمل في دلالاته معاني عميقة، ويعبر في طياته عن نقاء النفس البشرية ودنوها من التسامح والانفتاح على الآخر والتسامي على كل الجراح، من أجل الحفاظ على ديمومة الحياة في إيقاعها الهادئ، بعيداً عن أجواء الشحن والكراهية والبغضاء.

ولا يرفض الحلول التي تفضي إلى التصالح، إلا من لديه أغراض لا تتواءم مع الطبيعة السوية، فالسلم حالة يقبلها أي عاقل، وتهفو لها كل روح متحررة من الضغينة والحقد. ولا يمقت الصُلح إلا من يجنح قلبه للصراع والتناحر، حتى لا يخبو بريقه فيزول أثره وينبري وجوده.

وفي شرحه لمفهوم «المصالحة الوطنية»، يقول الكاتب والباحث في مجال التربية على حقوق الإنسان والمواطنة المصطفى صويلح: «المصالحة هي تعبير عن مرحلة، وذلك بمعنى أن أطراف النزاع في البلد بدأت تستشعر بسبب إكراهات داخلية وأخرى جهوية ودولية، وبعد وصول باقي الأساليب السابقة إلى الباب المسدود، أهمية الاتجاه في تسيير التناقضات بينها نحو أعمال منهجية مسالمة، بدل منهجية المواجهة العنيفة».

ويرى صويلح أن «المصالحة في هذا السياق، هي توافق وطني يستهدف تقريب وجهات النظر المختلفة، وردم الفجوات بين الأطراف المتخاصمة أو المتحاربة».

وفي البحرين، حين خرج نبأ تبني مجلس الشورى وثيقة للمصالحة الوطنية بناءً على مقترح تقدمت به عضو المجلس دلال الزايد، سخفت بعض الشخصيات، والأقلام الصحافية، وقادة الرأي هذه الفكرة، بل وعمدوا إلى الحط من قدرها، وحذروا المحسوبين عليهم ممن يسعون للتصالح أو مالوا ميلاً بسيطاً في هذا الاتجاه، من مغبة رفض وسخط اجتماعي من الجماعة التي ينتمون إليها، على أساس أن الطرف المقابل (خائن، عميل، ينفذ أجندات خارجية)، وذلك بالمطلق، أي أن طائفة بأكملها حشرت في هذه الخانة التسقيطية البعيدة كلياً عن التقييم المتزن والقراءة الواعية للمواقف الوطنية، وبات مد اليد إليها أو محاولة الوصول إلى قنوات مشتركة وتقريب المسافات المتباعدة، أشبه بالمساهمة في طعن البلد في الظهر والتآمر عليه.

إذا كانت مثل هذه العقول بيننا، فكيف لهذا الوطن أن يخرج من محنته؟ وأنى له أن يقف على قدميه ويتعافى وينطلق مجدداً، وهناك من يعمل على ضرب وحدة شعبه، ويعزز من كراهية الناس لبعضهم بعضاً، ويذكرهم بما مضى وما سيحصل، ويبث الخوف فيهم حتى لا يجتمع شملهم أبداً.

حرية الرأي والتعبير وممارسة العمل الصحافي بلا قيود مسبقة، هي مطلب مهني حضاري يعزز من الرقابة على المال العام، ويكشف بؤر الفساد، ويساهم في إصلاح الأخطاء ودعم عملية التنمية، ولكن في المقابل يجب أن يحكم كل ذلك ضمير حي واعٍ، يترفع عن الانتماء إلى القبيلة أو الطائفة أو الجماعة، ويدافع باستماتة عن الانتماء الوطني، من خلال توجيه الكلمة الطيبة الحسنة التي تعزز من اللحمة والتآزر والتسامح والوحدة، لا التفوه بالعبارات التي تدغدغ العاطفة، وإطلاق الاتهامات الرخيصة التي لا تستند إلى دليل، من أجل كسب ود الشارع، وحشد الناس لاستخدامهم كوقود لمحارق إذا اشتعلت لن تجد من يطفئها.

الانتقال بالبشر إلى مرحلة الانفعال سهلة جداً، تتطلب فقط التركيز على فكرة محددة تمثل قناعة بالنسبة لهم ونقطة اختلاف في الوقت ذاته مع الطرف المضاد، ومن ثم البدء في بث رسائل محددة عبر أية وسيلة تواصل كانت من أجل شحن النفوس وإيغارها إلى حد الانفجار، فيظهر الانفعال في صيغة سلوك قد يصل إلى مستوى العدوانية، يؤدي إلى ارتكاب أفعال بلا شك ستفضي إلى صراع أهلي، يتحقق من خلاله النصر لمؤسس الفكرة ومحركها، ولكن الخاسر في نهاية المطاف هم المجاميع الكبيرة من أبناء هذا الوطن العزيز.

نمتلك ذاكرة كبيرة من الذكريات السيئة، والمواقف المؤلمة، والقصص التي تدمي القلب، يعمل على تعزيزها الموتورون ومن يعانون من أمراض نفسية مزمنة، يعيدون سردها يومياً بصورة فجة مملة، بلغت حداً مفضوحاً مأسوفاً عليه، فمع كل كلمة تخرج من أفواههم أو كتاباتهم تتضح أهدافهم، وتتكشف مساعيهم وأغراضهم، وليس هناك من يردعهم أو يوقف معاول الهدم التي يضربون بها قواعد السلم الاجتماعي بقسوة ما عرفها ولا عهدها هذا الشعب المتصالح المسالم.

الأصوات الداعية إلى الاحتراب وتأصيل النزاع لن تتوقف، ففي اجتماع الناس نسف لوجودهم وتهديد لمصالحهم، وبعثرة لأوراقهم وخططهم، وعلينا كبحرينيين أن نعي ذلك ولا نغرق في مشاكلنا فننسى أن هناك من لا يريد لنا الخير، ويهنأ كلما زاد عدد ضحاياه الذين يزج بهم في صراعات طائفية، تعبر عن إفلاسه الفكري ونواياه السيئة وحبه النرجسي لذاته، فهل نمتلك هذا الوعي الحقيقي لنفوت عليه هذه الفرصة؟