العدد 3438 - السبت 04 فبراير 2012م الموافق 12 ربيع الاول 1433هـ

مظاهر وتجليات انحطاط الدولة العربية

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

خلال عقود ما بعد الاستقلال، هناك مراحل قصيرة مضيئة كمرحلة جمال عبدالناصر في مصر، ومرحلة عبدالكريم قاسم في العراق، ومرحلة أحمد بن بيلا في الجزائر، والملك محمد الخامس في المغرب، ومرحلة عبدالله السالم الصباح في الكويت، ومرحلة شكري القوتلي في سورية، والتي كانت تبشر بتوجه جاد وإيجابي لبناء دولة الاستقلال الوطنية، وإن كانت قسرية وغير ديمقراطية في غالب الأحيان.

كما أنه وعلى رغم الطبيعة المحافظة والتبعية للأنظمة العربية، فقد كان بعضها ذا طابع مدني مؤسسي كوجود حياة حزبية تعددية وبرلمانات ودساتير ونقابات وانتخابات نيابية وبلدية، وإن كان معظم هذه الأحزاب والبرلمانات ومؤسسات الدولة ودساتيرها وتشريعاتها تقليدية، حيث السلطة العليا للحاكم والأسرة الحاكمة، لكن الدولة العربية في جميع النماذج الجمهورية والملكية، والثورية والمحافظة، الليبرالية والتسلطية، قد تراجعت حثيثاً عن بناء الدولة الوطنية الحديثة واتخذ هذا التراجع طابع الانحطاط المخيف، وخصوصاً بعد استقرار الأنظمة العربية، وإمساكها بقوة بالسلطة، والتأسيس لنظام عربي بما يعرف بالاعتدال.

وكما هي الأنظمة الملكية فقد أضحت الأنظمة الجمهورية غير تداولية وتوارثية وأطلق عليها «جملكية»، وأضحى التعايش مع "إسرائيل" والتحالف مع الغرب بقيادة أميركا هو السائد كأمر واقع أو مشرع وخصوصاً بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. ونعرض أهم مظاهر انحطاط الدولة العربية.

أولاً: تمركز السلطة والثروة

من أهم مظاهر الانحطاط هو تمركز السلطة والثروة الشديد في أيدي النخب الحاكمة.

لقد انتقلت الدولة العربية من الدولة الريعية إلى الدولة الغنائمية. فلم يعد إلا القليل من الدخل الوطني يصل إلى الشعب، في حين تستأثر النخبة الحاكمة على نصيب الأسد، وأضحت هناك مجموعة أقلية تستأثر على نصيب الأسد من الثروة، ومجموعة أكثرية تعيش على ما يجود به النظام.

الثروة مرتبطة دائماً بالسلطة والعكس صحيح، وباستثناء حالات نادرة للحكام العرب مثل عبدالناصر وبن بيلا والقوتلي وقاسم، وقليل جداً من الملوك العرب مثل محمد الخامس، فقد اكتسب الحكام العرب وحاشيتهم ثروات كبيرة خلال وجودهم في السلطة. لكن الذي حدث خلال العقود الأخيرة وفي ظل المتغيرات التي ذكرناها من مراكمة شديدة للثروة لا سابق لها في تاريخ الحكم العربي، ما يذكرنا بخلفاء الدولة العباسية مثل هارون الرشيد الذي خاطب غيمة عابرة في سماء بغداد «أينما تذهبين يأتيني خراجك».

إن مراجعة لما تنشره مجلة «فوربس» من ثروات المشاهير في العالم العربي وما أضحى معروفاً سواء بالنسبة للذين أطيح بهم في مصر وتونس وليبيا وسواها من أرقام مذهلة، ونحن نتحدث عن حكام يملكون هم وأسرهم عشرات المليارات من الدولارات في بلدان مديونة بعشرات المليارات ويعيش جزء كبير من مواطنيها تحت خط الفقر، فضلاً عن بلدان نفطية غنية ومواطنوها في عيش كريم نسبياً، لكن ثرواتها الأسطورية تتبدد جراء الاستيلاء على مليارات من مداخيل النفط.

وأخطر ما في الموضوع هو أنه لم يعد هناك حاجز بين مداخيل الدولة وأملاكها من أراض وغيرها، وأملاك النخب الحاكمة، ولذلك يتم تملك مساحات شاسعة من الأراضي. أما الاتجاه الجديد فهو دخول النخب الحاكمة في مشاريع استثمارية عقارية هائلة مع البنوك الاستثمارية، وهكذا انتشرت كالفطر المدن الجديدة والمشاريع الإسكانية الفاخرة من المغرب حتى المشرق، ودخلت الحاشية في البزنس (النشاط الاقتصادي)، وأصبحوا نخبة أرباب العمل سواء من موقع المالك أو الشريك.

الملاحظ هنا هو مركز الثروة، بمعنى حصرها بالأسر والنخب الضيقة، والتي أضحت تمتلك المليارات، فيما تراجع نسبياً نصيب ما يعرف بقاعدة النظام كالقيادات والكوادر الحزبية وأرباب الأعمال والزعامات التقليدية، وبالطبع على حساب الشعب في ثرواته والدخل الوطني العام.

إن التحقيقات في ثروات بن علي ومبارك والقذافي وعائلاتهم وحاشيتهم ما هي إلا قمة جبل الجليد، لواقع خرافي لثروات الحكام العرب وعائلاتهم. ولم يكن بالإمكان هذا الاستحواذ غير المشروع ممكناً إلا باساءة استخدام السلطة، بحيث تنتهك حتى الدساتير والقوانين على قصورها، فأوامر الرئيس وحاشيته واجبة النفاذ. ولم يعد هناك حرج في كشف هذا الواقع المخزي مادام الحكم قسراً هو السائد.

بعد تعدد أنماط السلطة في الوطن العربي، وهناك كتاب قيم «أنماط الاستيلاء على السلطة في الوطن العربي»، فإنه يلاحظ تمركز السلطة في يد الحاكم العربي، والحاشية المقربة والنخبة المحيطة به. وفي الجمهوريات التي تحكمها أحزاب حاكمة تحول الحاكم إلى حزب الحاكم، وأضحى أداة بيد الحاكم في إضفاء الشرعية عليه، وأداة في السيطرة على الحياة السياسية ومؤسسات الدولة ليس استناداً إلى كون الحزب مصدر السلطة والقرار، ولكن لتنفيذ إرادة الحاكم والنخبة الضيقة المحيطة به بل وصل التدهور إلى تحول أحزاب عقائدية حاكمة مثل البعث أو جبهة التحرير الجزائرية إلى أحزاب تهيمن عليها نخبة صغيرة مرتبطة بالحاكم ويقتسم أفراد العائلة أو الطائفة أو الحاشية المراكز القيادية منها.

ذلك يفسر أنه على رغم هيمنة الحزب الحاكم على الحياة السياسية وسيطرته على أجهزة الدولة، عجزه الفاضح عن الاستنفار والدفاع عن رئيسه ونظامه، عندما اندلعت الثورة أو الانتفاضة، كما في تونس ومصر وليبيا وسورية، واليمن وغيرها. وذلك عائد إلى أن الغالبية العظمى من قيادات وكوادر وأعضاء الحزب انتهازيون أو مضللون، كما يكشف عن عزلة هذه الأحزاب.

ثانياً: اختزال الدولة

من تجليات ذلك اختزال الدولة إلى الحكومة والحاكم، حيث تخضع الحكومة أجهزة الدولة من وزارات وأجهزة تنفيذية، ومؤسسة تشريعية وقضاء، وقوات مسلحة وأمن وخارجية وإعلام، لمصلحة النخبة الحاكمة، مستبيحة حتى الدستور والقوانين التي وضعتها.

أضحى موظفو الدولة من أكبرهم حتى أصغرهم بمن فيهم الوزراء والقضاة والسفراء والضباط، في خدمة النخبة الحاكمة. وبدلاً من أن تنتج الدولة النخب الحاكمة أضحت النخب الحاكمة تتحكم بالدولة. من هنا استمرار رؤساء جمهوريات، يفترض أنهم منتخبون بإرادة الشعب، إلى حكام أبديين رغماً عن إرادة الشعب حتى يأخذ عزرائيل أرواحهم، والأنكى توريثهم الحكم لأبنائهم.

أحد تجليات انحطاط الدولة العربية، هو تحويل القوات المسلحة والتي يفترض أن تكون مهمتها الدفاع عن الوطن وسيادته ووحدة أراضيه، إلى حامٍ للنظام ضد إرادة شعبه، حيث لا يتورع عن استخدامه لقمع الشعب متى ما عجزت أجهزة الأمن والمخابرات عن ذلك. ونرى نماذج ذلك في العراق وسورية واليمن وليبيا والجزائر، لذلك ليس عجيباً أن تنهزم الجيوش العربية أمام أعدائها وخصوصاً "إسرائيل"، وتنتصر على شعوبها المسالمة.

أما شعار "الشرطة في خدمة الشعب"، المكتوب على أبواب مخافر الشرطة ومباني وزارة الداخلية في الدولة العربية، فيدعو للسخرية. فمنذ عقود أضحت قوى الأمن والمخابرات مع تعدد وتفرع أجهزتها إلى أداة قمع للشعب وحماية الأنظمة. ليس بالضرورة أن يثور الشعب أو يحتج في مظاهرة أو مسيرة حتى يقمع، فقوات الأمن والمخابرات العربية تستند إلى استراتيجية الردع والتخويف ضد المواطن، حتى لا يفكر أبداً في الاحتجاج.

إن حادثتي خالد سعيد في مصر ومحمد البوعزيزي في تونس ومئات من الحكايات تكشف عن نهج قمعي للدولة العربية.

وينظر إلى القضاء على أنه الحصن الأخير للمظلوم في الدولة العربية الظالمة، ولكن هيهات، إنه وباستثناء ومضات نادرة لقضاة نزيهين خاطروا بأنفسهم ومستقبلهم المهني، وقضوا بغير إرادة الحاكم والحكم، فإن القضاء العربي يفتقد إلى العدالة، وكثيراً ما تملى عليه الأحكام من فوق، وخصوصاً إذا ما تعلق الأمر بمصالح النخب الحاكمة، أو ممارسة المتهم لحقوق السياسة. هل سمعتم بحاكم عربي أو أحد أقاربه أو مقربيه أو فرد من النخبة الحاكمة حوكم في عهده؟ هل كان ممكناً أن يحاكم ويدان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك لو كان حاكماً عربياً؟ لا تكتشف الجرائم ويحاكم مرتكبوها من الحكام وخلصائهم وأقاربهم إلا بعد سقوطهم وهذا هو الحال في تونس ومصر وليبيا! استقلالية القضاء العربي أسطورة يرددها النظام حتى يبرر استخدامه لأغراضه.

ومن المعروف في الدول المتحضرة أن السياسة الخارجية ووزارة الخارجية وسفاراتها وقنصلياتها لخدمة الدولة والبلد والشعب في علاقاته مع الدول والبلدان والشعوب الأخرى، لكن السياسة الخارجية في الدولة العربية هي للترويج للحاكم والحكم والتشهير بمعارضيه وتشويه سمعتهم، ومطاردتهم في الخارج.

أضحى همّ السفارات تسهيل المعاملات التجارية للنخبة الحاكمة، وخدمة الحاشية الحاكمة أثناء زياراتها، بحيث يقاس أداء السفير بمهمته في تسهيل الخدمات المشروعة وغير المشروعة. ولتحقيق هذه المهمات التي تعجز عنها السفارات يجري الاستعانة بمكاتب علاقات عامة بكلفة باهظة للترويج للنظام وتشويه المعارضين.

لذلك ترى عدم كفاءة الدبلوماسية العربية، وفشلها في الدفاع عن قضايا العدالة الوطنية والقومية، ونجاح خصومها في المحافل الدولية. والأنكى أن الخارجية العربية والسفراء العرب يتبارون في التقرب إلى الخصم، أملاً في الرعاية الأميركية، أو الاستعانة بالخصم في مواجهة الشقيق.

قليل هم وزراء الخارجية والسفراء العرب المتميزون، والذين استطاعوا أن يحظوا بدور في مهنتهم أو مكانة في مجتمعهم أو يتبوأوا مكانة في المجتمع الدولي.

هذه بعض أوجه انحطاط الدولة العربية وغيرها كثير، والمطلوب تشخيص أوسع لهذه الاختلالات وسبل معالجتها من قبل حركات التغيير العربية

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 3438 - السبت 04 فبراير 2012م الموافق 12 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 7:47 ص

      تفسخ الدولة 2

      وانعكاس ذلك على معظم أنشطة وفعاليات هذه الدول على المستوى القطري والإقليمي والعالمي ، خاصة مراكز ومؤسسات التمثيل الخارجي ،التي ابتلت بعقول متكلسة ليس لها علاقة بهذا القطاع الحيوي الهام والتي تم فرضها على أساس غير مهني...مع التحية

    • زائر 2 | 7:45 ص

      تفسخ الدولة 1

      في البدء أشكر الأستاذ عبدا لنبي العكري على هذا الجهد والمساهمة القيمة ، كما أود أن أبين بهذه المناسبة ، بأن الانحطاط يعتبر جزء من التفسخ العام للدولة العربية ،الذي لازال مستمراً بالرغم من حداثة نشؤها وعدم تطور هياكلها الإدارية والمؤسساتية وتحول هذه الدول ومؤسساتها المختلفة إلى ممتلكات خاصة (كما تفضلتم)،بالرغم من أزمة الكثافة السكانية والاقتصادية وأتساع دائرة الفقر والتخلف والجريمة ،...

اقرأ ايضاً