العدد 3441 - الثلثاء 07 فبراير 2012م الموافق 15 ربيع الاول 1433هـ

ما بعد الهيئة: حالة من الإحباط وانطلاق حركات سرية

عبدالكريم العليوات يتذكر (11)...

عبدالكريم العليوات
عبدالكريم العليوات

الزمن لا يشيخ؛ وخصوصاً للذين هم شاهدون عليه. هم يمثلونه في أكثر من قلب وحس إضافي في اللحظات الفارقة والحاسمة. هم ثرمومتر الزمن. البعض يريد للزمن أن يشيخ ويهرم ضمن شروطه واصطفافه أو حتى مزاجه. ذلك لن يحدث؛ لأن الزمن ليس أجيراً عند أحد بالمياومة أو براتب مقتطع يحدده صاحب مزاج أو وهم.

عبدالكريم العليوات واحد من شهود مرحلة فاصلة امتدت منذ منتصف القرن العشرين وشهد أحداثاً وتحولات.

وحين يتذكر هنا لا ليذهب في السرد، بقدر ما يذهب في محصلات ذلك السرد. يواصل عبدالكريم العليوات حديث الذكريات.

في الحلقات الماضية تعرضنا إلى الظروف التي نشأت فيها الهيئة، وكيف أنها تأسست بسبب نجاح النخبة في إخماد الفتنة الطائفية العام 1953، ومن ثم نجاح النخبة ذاتها في 1954 في حل أزمة التأمين على السيارات والحافلات. ثم تطرقنا إلى كيف استطاعت تلك النخبة تشكيل قيادة مثلت فئات المجتمع، وأصبحت قيادة الهيئة ثمانية أشخاص، نصفهم من الشيعة والنصف الآخر من السنة. ولاحظنا كيف أن الهيئة تمكنت من تحقيق الكثير من أهدافها، ولكن تشابك الأحداث الداخلية مع الأحداث الإقليمية، ولاسيما الأحداث في مصر آنذاك، أدَّى إلى تطورات متسارعة قادت في نهاية 1956 إلى اعتقال قادة الهيئة وحلها وإعلان حالة الطوارئ.

كما تطرقنا في الحلقات الماضية إلى جولات المفاوضات بين الحكومة والهيئة، والواقع، أن الهيئة استطاعت لمّ شمل جميع البحرينيين تقريباً، فيما عدا أتباع جمعية دينية انحازت ضد التحرك الشعبي. كما أن الحكومة فشلت في خلق بديل للهيئة من خلال تحريك جماعة على أساس إثني - طائفي، فالنخبة كانت واعية وكان لديها السند الشعبي العارم في الشارعين السني والشيعي، الذي توحد وأصبح شارعاً سياسياً واحداً.


سياسة إصدار البلاغات العامة

لكن الهيئة كانت تبذل الكثير من الجهود من أجل السيطرة على الأجندة وعدم تغييرها، ومن أجل الحفاظ على سلمية التحرك، ولذا كانت هيئة الاتحاد الوطني تصدر بلاغات إلى الشعب، وتطرح في تلك البلاغات آخر التطورات وتوضح مواقفها باستمرار، وكان لديها متطوعون من كل مكان يوزعون البلاغات ويقرأونها على الناس.

نعود إلى الوراء - إلى مارس/ آذار 1956 - لنستكشف كيف كانت الهيئة تخاطب جماهيرها عبر البلاغات.

ويمكن أن نراجع أنموذجاً من تلك البلاغات، وهو «بلاغ رقم 42» الذي صدر في مارس/ آذار 1956 (وهو الشهر الذي وصلت فيه الهيئة إلى قوتها بشكل ملفت وقد اعترفت الحكومة بالهيئة كحزب سياسي بشكل رسمي في 16 مارس 1956). وقد جاء في ذلك البلاغ قبل الاعتراف الرسمي بها، ما يأتي:

أنموذج «بلاغ رقم 42»

«أيها المواطنون الكرام:

لقد انقضى الأسبوع الذي أمهلنا المسئولين فيه ليحققوا مطالبكم العادلة، ويعدلوا عما رسموه لأنفسهم من خطط مناوئة لرغبات الشعب وإرادته.

وإنه مما يؤسف له أن المسئولين لم يفكروا ولم يعبروا هذا النداء وتلك الرغبة الملحة منكم أدنى اهتمام؛ ما أثار حفيظتكم فأخذتم تفدون جماعات ووحداناً إلى ممثليكم تطالبونهم باتخاذ خطوة حاسمة، وحيث إننا قد ألزمنا أنفسنا باسمكم منذ بداية حركتنا هذه اتباع سبيل الكفاح السلمي ونحن مازلنا على رغم إمكاناتنا واستعدادنا لمجابهة كل أمر مصممين على أن نستمر في سلوك هذا السبيل الذي ألزمنا أنفسنا به.

لقد كانت رغبتكم الأخيرة متجاوبة مع هذه الخطة، وهي الرغبة الإجماعية الملحَّة التي عبَّرتم عنها في قراركم الإجماعي القاضي بأن نطلب من حاكم البلاد في أن يعفي مستشاره السير تشارلر بلغريف من منصبه وأن يعترف بهيئتكم اعترافاً رسمياً حتى يتعاون المسئولون مع ممثليكم في وضع أسس ثابتة للأخذ بيدكم وبيد بلادكم في سبيل التقدم والازدهار نحو حياة أفضل.

ونحن بناءً على هذه الرغبة الإجماعية تقدمنا بالمذكرة الآتية إلى حضرة صاحب العظمة حاكم البلاد:


رسالة أخرى من الهيئة إلى سمو الحاكم

(حضرة صاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين المعظم... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

لقد انقضى أسبوع على البيان الذي أصدرناه مناشدين فيه حكومة عظمتكم الاستجابة لمطالب الشعب، وحتى الآن لم يبدُ من جانب الحكومة ما يبرهن على استعدادها للتفاهم مع ممثلي الشعب حول مطالبه والعمل على تفادي ما قد يترتب على هذا الإهمال من نتائج سيئة تهدد كيان هذا المجتمع وسلامته.

إن هذا الإهمال الذي قابل به المسئولون مطالب الشعب الإجمالية ليس بالشيء الجديد، فمنذ أن اتحدت كلمة الشعب على المطالبة بحقوقه، وموقف المسئولين يزداد في تجاهل رغبة المجموع واتخاذ إجراءات فردية لا تقيم لرأي الشعب أو شعوره أي وزن.

إن أحداً من الشعب لا يجهل اليوم السبب الرئيسي في تمسك الحكومة بموقفها هذا ألا وهو وجود فرد واحد على رأس جهاز الإدارة الحكومية يتحكم فيه كما يشاء وذلك لأنه يعتمد أن في تنفيذ كل إصلاح تحديداً لما يتمتع به من سلطات واسعة غير محدودة؛ ما يؤدي إلى حصر نشاطه في مجال اختصاصه الرئيسي؛ الأمر الذي يتعارض مع ما يزاوله اليوم من سلطات استبدادية تتيح له التدخل في كل صغيرة وكبيرة وفرض آرائه الخاصة مهما كانت أغراضها ودوافعها.

هذا الفرد الواحد الذي نعنيه هو حضرة صاحب الفخامة السر تشارلز بلغريف مستشار حكومة عظمتكم الذي لم يجرؤ فرد أو جماعة من أفراد الشعب منذ توليه مهمات الإدارة الحكومية في البحرين حتى اليوم على الوقوف منه موقف المعترض والمحاسب، على رغم الأخطاء الكبيرة التي نشأت من جراء إصراره على تطبيق السياسة الرجعية البالية نفسها التي كان يفرضها على شعب هذه البلاد، منذ أكثر من ثمانية وعشرين عاماً، وذلك على رغم التطور الهائل الذي طرأ على أن الشعب يعزو إلى هذا المستشار معظم العراقيل التي وضعت ولاتزال توضع أمامه للحيلولة دون طائل، في سبيل استدراج المستشار للتفاهم معه حول مطالبه وإعطائه المجال الواسع لإثبات حسن نيته، بل لقد مضى الشعب معه إلى الحد الذي قبل به ممثلوه الموافقة على تسوية مؤقتة لبعض مطالبهم، لم تكن في يوم ما لترضي شعباً متذمراً من فساد الأوضاع يطمح لنيل حقوقه المشروعة في تنظيم شئونه الداخلية بما يكفل له الحرية والعدالة والمساواة، وهي التي تعترف له بها كل شرائع العالم الحديث ونظمه وقوانينه كحق مقدس لا مجال للاعتداء عليه وانتهاك حرمته... ومع ذلك لم ينجح هذا الاتصال في إقناع المستشار بضرورة العدول عن سياسة التجاهل لرغبات الشعب والتصرف بصورة انفرادية حتى في مجال تنفيذ شروط الاتفاق الذي كان ممثلو الشعب طرفاً رئيسياً فيه وكان حضرة المستشار طرفه الآخر؛ الأمر الذي نتجت عنه هذه الأزمة التي زاد استحكامها في الآونة الأخيرة بحيث أصبحنا نجد أنفسنا تحت إلحاح الرأي العام واستجابة لرغبة الشعب الإجمالية مضطرين أن نطلب من عظمتكم إعفاء المستشار من خدمته في السلك الحكومي، ولاسيما أن لهذا الطلب مبرراته الأخرى الكثيرة التي من أهمها طول الخدمة التي جاوزت الآن الثلاثين عاماً تقريباً وكبر السن مضافاً لذلك كله ما أشرنا إليه من تطور الوضع وازدياد المسئوليات والمهمات الإدارية بحيث لم يعد في طاقة فرد واحد مهما أوتي من نشاط أن ينهض بها بمفرده على الوجه الأكمل.

إن الشعب يعلق آمالاً كبيرة على استجابة عظمتكم لهذا المطلب الإجمالي الذي يتقدم به إليكم. إن هذه البادرة من عظمتكم إذا تمت - مقرونة باعتراف الحكومة الرسمي بممثلي الشعب بغية الوصول إلى تفاهم مشترك - ستؤدي حتماً إلى تفريج الأزمة القائمة اليوم بين الحكومة والشعب بما يحقق الاستقرار في البلاد، والتعاون المشترك لما فيه المصلحة، وإننا لنأمل من عظمتكم أنكم سترون بعين العناية والاهتمام ما تقدم به ممثلو الشعب باسم الشعب لعظمتكم وتستجيبون إلى رغبته راجين أن تتغلب الحكمة على العاطفة، وبذلك تقودون السفينة إلى شاطئ السلامة والأمان.


3/3/1956... المخلصون، ممثلو الشعب).

نلاحظ أن قادة الهيئة كانوا يعدون الجماهير بأنهم سيراقبون «مجرى الأمور وسير الحوادث بعين الحذر واليقظة»، ودائماً يقومون بموافاة الناس «بما يستجد من الأمور والقرارات في حينه».

ونلاحظ أيضاً كيفية صياغة البلاغ، إن الهيئة كانت حريصة على أن تقتل الشائعات وأن تكشف ما لديها من أوراق باستمرار، وهذا كان جيداً من جانب، ولكنه أيضاً كان يفقدها القدرة على المناورة في حال أرادت أن تتفاهم باستمرار مع الحكومة في أجواء بعيدة عن الأضواء.

لقد حققت الهيئة الكثير من أجل شعب البحرين، وأهم شيء أنها وأدت الفتنة الطائفية، واستطاعت الحصول على اعتراف رسمي بالعمل الحزبي العلني، وأعلنت نقابات للعمال (اتحاد عمال البحرين)، وفاوضت باسم الشعب، وتحملت الأمانة بكل إخلاص ووطنية وكتبت التاريخ البحريني بأسطر من ذهب.


ما بعد الهيئة... حالة من الإحباط

بعد ضرب الهيئة في نهاية 1956 سيطرت حالة من الإحباط والحزن الشديد على الشعب البحريني، وفي الوقت نفسه ساد جو من الخوف والتوجُّس بسبب القمع من الحكومة المسلط على الشعب عموماً، والناشطين خصوصاً. وفي ظل هذا الوضع أصبحت البحرين لعدد من السنوات تحت رحمة قانون الطوارئ والقبضة الأمنية الحديدية.

القبضة الأمنية تمكنت من السيطرة على المظاهرات في الشارع، ولكن بعد ذلك بدأت الحركات السرية في التشكل، وكانت ثلاث حركات بدأت تستقطب الناشطين بعد ذلك، وهي حركة القوميين العرب، والحركة الشيوعية، وحزب البعث. وبظهور هذه الحركات بدأت البحرين بالدخول في مرحلة تاريخية جديدة، اتسمت بنشاطات من نوع آخر.

وهنا أشير فيما يتعلق بحركة القوميين إلى أن أحد الأشخاص اتصل بي من طرف رئيس حركة القوميين العرب في منطقة الخليج العربي، أحمد الخطيب، وقد طلب مني هذا الشخص أن أنضم إلى الحركة، لكنني رفضت ذلك، وفضلت أن أظل مستقلاً كما كنت على الدوام.


أسباب فشل الهيئة

أسباب فشل هيئة الاتحاد الوطني كثيرة لكنني أجملها فيما يأتي:

الأول: طبيعة التناقض فيما بين قيادات ومكونات الهيئة، ذلك أن مواقف أعضاء قيادة الهيئة غير متوافقة تماماً، وهذا يعني أن المواقف كانت تتباين في الأوقات الحرجة؛ ما أضعف القيادة في السيطرة على بعض الأمور التي كانت بحاجة إلى قيادة فاعلة وحاسمة.

الثاني: عدم فهم سياسة الدولة المسيطرة (بريطانيا) آنذاك. فقد كان هناك فرق بين مواقف المستشار بلغريف، والمعتمدية البريطانية، وكانت الحركة تستخدم مصطلحات خشنة مستخدمة في بلدان عربية أخرى، مثل مكافحة الاستعمار، في حين أن الوضع في البحرين كان له ترتيب آخر، وكانت هناك فروقات في المواقف ولا يمكن تلوينها بلون واحد، فبلغريف في تلك الفترة لم يكن يمثل بريطانيا بقدر ما كان يمثل نفسه، وعدم التشخيص الدقيق لبعض الأمور والضياع في الشعارات حال دون تحقيق الهيئة لمطالبها.

الثالث: حجم القمع الذي وقع على الهيئة، وكذلك الدسائس والمؤامرات التي حيكت ضدها.

الرابع: خلو الساحة السياسية من قيادة بمستوى قيادة الهيئة بعد الاعتقال، وخاصة أن القيادة البديلة أو الاحتياط، لم تقم بدور قيادة الهيئة، وبذلك أصبحت الهيئة أشبه بالجسد من دون رأس. بمعنى آخر، فإن الهيئة كانت حالة شعبية عظيمة، وكانت قياداتها ريادية، ولكن قيادة الرموز والحالة الجماهيرية لم تتحولا إلى مؤسسات صلبة تحافظ على ما تم إنجازه، وتواكب المتغيرات

العدد 3441 - الثلثاء 07 فبراير 2012م الموافق 15 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 5:59 ص

      الى الوسط مع الشكر

      نريد تجميع الحلقات في ملحق خاص او اي شكل اخر اهم شي نحصل على الحلقات كاملة من جميع الاعداد ...
      هل ممكن ؟؟؟

      اتمنى ان اجدها قريباً وشكراً

اقرأ ايضاً