العدد 3446 - الأحد 12 فبراير 2012م الموافق 20 ربيع الاول 1433هـ

«انفصال»... فيلم يحاكم النظام ويفكك المجتمع

جمال الهاشمي comments [at] alwasatnews.com

كاتب وفنان بحريني

شاهدت مؤخراً الفيلم الإيراني المتميز (A Separation) «انفصال» والحائز على العديد من الجوائز كجائزة أفضل فيلم أجنبي بمهرجان «غولدن غلوب» وجائزة الدب الذهبي عن مهرجان برلين السينمائي وجوائز أخرى تعزز فرصه للفوز بجائزة الأوسكار، حيث أنه يعتبر المرشح الأوفر حظاً لنيل جائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي للعام 2012. من الجدير بالذكر أن المنافس الأقوى لهذا الفيلم هو الفيلم الإسرائيلي (Footnote)، كما وكنت أتمنى أن يكون من ضمن دائرة المنافسة الفيلم اللبناني الجميل والمؤثر (وهلا لوين) والذي كما يبدو ومع شديد الأسف أصبح خارج السباق.

الطلاق بسبب الهجرة

فيلم «انفصال» للكاتب والمخرج الإيراني أصغر فرهادي، يتناول جزءاً محدوداً - لكنه يعتبر فاصلاً مهماً - من حياة زوجين يقوم بدوريهما بيمان معادي في دور الزوج، وليلى حاتمي بدور الزوجة. الزوجان يفتتحان الفيلم في مشهد مؤثر وصادم بجلسة استماع قضائية في قضية طلاق.

يجلس الزوجان على امتداد زمن المشهد مقابل الكاميرا وجهاً لوجه مع الشاشة، فتصبح أنت المشاهد وبشكل قسري طرفاً في النزاع، بل وحتى في موقع القاضي الذي يفشل في نهاية المطاف في الانحياز لأيٍّ من الطرفين، ليس بسبب التعاطف المبرّر مع وسامة وجمال وشخصية الممثلين، لكن بسبب استئثار كلا الزوجين على قلبك وعقلك في كلتا الحجتين والموقفين؛ فهي تطلب الطلاق كونها تنشد الهجرة من بعد جهد ومشوار طويل للحصول على تأشيرة السفر (الحلم بالنسبة إليها) إلى بلد آخر قد يؤمّن لها ولعائلتها حياة أفضل، هروباً كما يبدو من بلد ومجتمع وواقع لا ترى فيه أي بصيص من الأمل للحياة، وهو الزوج الصالح والمحب لزوجته ولابنته، ذات الأحد عشر ربيعاً، وهو الرافض لفكرة الهجرة بسبب التزامه الأخلاقي وتمسكه الشديد برعاية والده المسن والمريض بداء فقدان الذاكرة (الزهايمر). والده الذي في بعده الآخر يرمز للجذور وللوطن الذي مهما عظمت أعباؤه ومشكلاته فإنه في آخر المطاف يبقى الوطن.

لا ينجح المشاهد، كما ويفشل القاضي في الانحياز القاطع لأيٍّ من الزوجين، غير أنه نظراً إلى انحيازه لإرث القوانين الذكورية، نجده يرفض طلب الطلاق ويطلب منهما مزيداً من التفكير والاتفاق فيما بينهما.

تتوالى أحداث الفيلم بعد هذا المشهد الافتتاحي بترك الزوجة المنزل للذهاب والعيش في منزل والديها، لا يثنيها الزوج عن ذلك، ويجد نفسه مضطراً بحكم عمله اليومي للبحث عمّن يقوم برعاية والده وتدبير أمور المنزل حيث تتقدم لهذه الوظيفة امرأة يدفعها ضيم العيش والحاجة للعمل في وظيفة غاية في الصعوبة والحساسية، إذا أخذنا في الاعتبار المسافة البعيدة التي ينبغي عليها قطعها يومياً من مكان سكناها، حاملةً معها ابنتها الصغيرة والجنين الذي في بطنها. وإذا أخذنا في الاعتبار أيضاً تمسكها الشديد بالدين الذي قد يتعارض إلى حدٍّ ما مع ظروف هذه الوظيفة، وهي الاعتناء بوالد الزوج المصاب بداء الزهايمر، وما يستدعي ذلك من الحاجة إلى ملامسة رجل غريب، وإن كان كهلاً.

يصل الفيلم وبشكل دراماتيكي إلى الذروة عندما يقوم الزوج بطرد العاملة ودفعها خارج المنزل بحجة إهمالها في عملها وعدم العناية الجيدة بوالده، إلى جانب اتهامها بسرقة مبلغ من المال. في المقابل تقوم المرأة برفع دعوى قضائية على الزوج تتهمه فيها بالتسبب في إسقاط الجنين. تتطور الحالة الدرامية وتزداد تعقيداً في سلسلة من الاتهامات والاتهامات المضادة في أروقة مراكز الشرطة والمحاكم، تتورط فيها أطراف عديدة من أقارب وأصدقاء الطرفين.

من دون تقديم حل نهائي لقضية الزوج والعاملة، ينقلنا المخرج وبشكل فجائي إلى المشهد الأخير من الفيلم وهو أحد أكثر المشاهد تأثيراً وإيلاماً، حيث الزوج والزوجة في مواجهة القاضي من جديد بوجود ابنتهما هذه المرة، في لحظة الانفصال الأخير والذي قد يكون حلاً أو لا يكون لإشكالية الزوج والزوجة، ولكنه يجرجر المشاهد وبالتأكيد البنت إلى أكثر الأسئلة صعوبة ومرارة... مع من تريدين العيش؟ الأب أم الأم؟ فهل تجيب؟

وبطلب من البنت، يطلب القاضي من الوالدين الانتظار خارج القاعة. يقف الأب والأم خارج قاعة المحكمة متقابلين متباعدين كبعد فينوس عن الأرض، يفصلهما رواق المحكمة الطويل الذي يعج بفوضى عارمة من الناس التي قد لا تحمل أسماء وملامح محددة كالزوجين لكنهم وبكل تأكيد يتشاركون في حمل هموم وقسوة نفس المجتمع.


جيلان مختلفان يرفضان الواقع

في سردي السابق أتيتُ على ذكر الجد والبنت بعجالة. عذراً، فهاتان الشخصيتان اللتان تنتميان إلى جيلين متباعدين تلعبان دوراً محورياً ومهمّاً جدّاً بحضورهما المتواري والطاغي على مشاهد ومفاصل الفيلم، وكأن الفيلم يدور خارجهما وبدونهما لكنه يدور داخلهما ويتمحور حولهما في آن معاً.

إنهما يرمزان إلى ضميري الماضي والمستقبل اللذين يرقبان بعينين يملؤهما الحزن، على امتداد الفيلم، بصمت مستفز أحياناً، هذا الحاضر المؤلم. إنه إذاً الواقع المجتمعي المتأزم الذي ترفضه كلتا هاتين الشخصيتين، ما يدفعهما إلى الانكفاء والتعامل بسلبية تامة مع كل ما يجري حولهما، ربما كوسيلة لحماية الذات من دمار وعفن الواقع المعاش، لكن رغم هذا الانكفاء والسلبية إلا أن هناك ومضات تتخلّل الفيلم تخرج فيها هاتان الشخصيتان عن هدوئهما وصمتهما المعتاد لتتساءل وتستنطق، بل وتتمرد على هذا الواقع. فتوق الجد للتحرر من قيود المنزل هو تعبيرٌ بليغٌ عن رفضه لهذا التكبيل والنزوع نحو فعل إيجابي وحرية افتقدها. وفي هذا النزوع يشاطر الجد الزوجة في توقها للتحرر والهجرة بعيداً عن هذا المجتمع، وربما هذا التوق والحلم المشترك هو سبب تمسك الجد القوي وحبه لزوجة ابنه الذي يترجمه بترديد اسمها وطلبه الدائم لها، وليس أكثر تعبيراً من ذلك المشهد عندما يمسك بيدها ويرفض تركها عندما تقرر ترك المنزل.

من جانب آخر، فإن رفض البنت لانفصال والديها وتضحيتها بالإصرار على بقائها في منزل والدها من أجل دفع الأم للتراجع عن قرارها ما هو إلا تعبير صريح عن هذه الومضات.


الأبعاد الفكرية والفلسفية والفنية

ينجح المخرج وبشكل باهر في التعرض لنقد وتعرية نظام اجتماعي وسياسي كامل من خلال تناوله موضوعاً اجتماعياً عادياً وبسيطاً، وعليه فإنني أرى بأنه من الضروري أن نأتي على ذكر بعض من الأبعاد الفكرية والفلسفية والفنية التي أعطت الفيلم كل هذا العمق والتشويق:

1 - على امتداد الساعتين، هي زمن الفيلم، وباستثناء بعض المشاهد المحدودة جداً، فإن جميع مشاهد الفيلم تم تصويرها في أماكن مغلقة، وعلى أقل تقدير فإن 90 في المئة من هذه المشاهد تم حصرها في موقعين فقط هما منزل الزوجين والمحكمة، وكأن المخرج يريد أن يقول لنا هذه هي حدود الحرية المتاحة في مثل هذه المجتمعات، وتسليط الضوء على حياة الإنسان المثقلة بالتزامات العائلة والعمل وأعباء الحياة الأخرى وخلوها من الانفتاح ومتع الحياة والتي قد تتوافر وبقدر أكبر في مجتمعات أخرى.

2 - قدرة المخرج على إبقاء المشاهد مشدوداً على مدى الساعتين رغم محدودية المكان والموضوع، أمر يستحق الإشادة والتقدير. وفي اعتقادي هناك عاملان مهمّان وظفهما المخرج للوصول إلى هذه التركيبة الكيميائية الفنية التي جعلت من الفيلم واحداً من الأعمال المتميزة ومن العلامات المهمّة في السينما العالمية.

أول هذه العوامل أو الأدوات هو السيناريو والحوار الذي اعتمد على المشاهد القصيرة والسريعة مصحوباً بحوار مشحون وبقدر كبير من العواطف والانفعالات. العامل الآخر الذي جاء ليكمل ويعزز العامل الأول هو الكاميرا؛ فرغم أن الفيلم خلا من الكوادر والصور المتميزة إبداعيّاً، وربما هذا هو أحد مآخذي على الفيلم، لكن في الوقت ذاته كانت الكاميرا سريعة في حركتها وانتقالها بين الممثلين واستطاعت أن تقطع الفيلم إلى عدد هائل من اللقطات؛ ما ساهم في إثراء ديناميكية الحوار والسيناريو.

3 - يقترب الفيلم في أسلوبه التقريري وخلوّه من أي مؤثرات بصرية وموسيقى تصويرية من الأفلام التسجيلية، وحسب اعتقادي فإن المخرج اعتمد هذا الأسلوب ليس بسبب نقص في الموارد والطاقات، وإنما متعمداً ليعكس لنا الواقع الاجتماعي اليومي بكل فجاجته وصراحته من دون أي رتوش أو مؤثرات.

4 - أبدع الممثلون جميعاً وبدون استثناء في أدائهم وبشكل خاص الممثلة الشابة سارينا فرهادي التي قامت بدور البنت (تيرميه)، وساهم هذا الأداء المتميز والعفوي، بالإضافة إلى قدرة الممثلين على تقمص الأدوار وإبراز الحالات النفسية والانفعالية لكل شخصية في خدمة هذا الأسلوب الواقعي التسجيلي الفج.

5 - على الرغم من الحضور العام لكن الخجول للملامح الدينية في الفيلم، مثلاً في تواجد الحجاب ومشاهد الاحتكام للقرآن الكريم والخوف من العقاب، فإن المخرج على ما يبدو قد تعمد تغييب رجال الدين وبشكل تام من الفيلم، حتى من قاعات وأروقة المحاكم الشرعية التي أخذت حيزاً كبيراً من الفيلم. المشهد اليتيم الوحيد الذي يشير ضمنياً إلى السلطة الدينية، وفي تحليلي كان مشهداً يحتوي على درجة من التهكم والسخرية، عندما تقوم العاملة بالاتصال تليفونياً على ما يبدو بشيخ دين تستفتيه فيما إذا كان يحل عليها العمل ورعاية الرجل المسن.

إن هذا التغييب التام للسلطة الدينية في الفيلم قد يحتمل أحد التأويلين، إمّا لإضفاء نوع من القدسية على هذه السلطة، وهذا مستبعد إذا ما أخذنا في الاعتبار السياق والرسالة العامة للفيلم، أو أن يكون تعبيراً لاستبعاد ورفض هذه السلطة من الأساس، وهذا ما هو مرجح.

6 - يتناول الفيلم شرائح وطبقات واسعة ومتنوعة من المجتمع. الطبقات المتوسطة المتعلمة والمقتدرة والطبقات الفقيرة المعدومة، فالزوج العامل والزوج العاطل والزوجة العاملة والبنت والأم وربة البيت والأم العاملة والمدرسة والطالبة والشرطي والقاضي، جميعهم يدخلون بشكل أو بآخر في علاقات وقضايا خلافية وندية مع بعضهم البعض، لكنه من الملاحظ أن جميع هذه الشخصيات ودون استثناء تمتاز بدرجة عالية من الطيبة والاحترام والحب وحتى الصدق. إنها القيم الأصيلة لأبناء المجتمع البسيط، إنه نفس المجتمع في وجهه الآخر الذي يفرض قسوته وظلمه على هذه الشخصيات ويدفعها للخطيئة والكذب وحتى الاحتيال، ليس بقصد الإيذاء لكنه كوسيلة للصراع من أجل البقاء. إنها الطبيعة البشرية في أكمل صورها.

في المشهد الافتتاحي للفيلم تسأل الزوجة الزوج: «هل مستقبل ابنتك لا يهمك؟»، فيرد عليها القاضي: «ألا يوجد في هذا البلد طفلٌ ليس لديه مستقبل؟»، فتجيب: «أنا أفضّل ألا تنمو طفلتي تحت هذه الظروف، وهذا حقي كأم»، فيرد عليها القاضي: «ما هي الظروف التي لا تعجبك؟»... فتصمت، دلالة الخوف من قول الحقيقة، فيواصل القاضي كلامه «أنت لديك مشكلة صغيرة وتريدين الطلاق؟»، فتردّ عليه الزوجة «مشكلتي ليست صغيرة»!

«انفصال» يتعدى كونه فيلماً يتناول قضية اجتماعية صغيرة ومحدودة كالطلاق، إلى أن يكون تحفة فنية ووثيقة مهمة تفتح جدلاً أكبر وأعمق في مفهوم الهوية والعائلة والانتماء والمواطنة، إلى جانب الإدانة التي توجهها إلى النظام الاجتماعي والسياسي الذي يمسخ آدمية الإنسان، وفي هذه رسالة عالمية تتجاوز حدود إيران

إقرأ أيضا لـ "جمال الهاشمي"

العدد 3446 - الأحد 12 فبراير 2012م الموافق 20 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 5:38 ص

      فيلم ممتاز جدآ

      انصح المخرج العربى كى يتعلم وكفنا أغانى والأفلام غير اخلاقى.

      شكرآ اخ جمال على تحليل عميق وجميل للفيلم .

    • زائر 1 | 2:25 ص

      رائع

      تحليل عميق وجميل للفيلم

اقرأ ايضاً