العدد 3456 - الأربعاء 22 فبراير 2012م الموافق 30 ربيع الاول 1433هـ

التعددية السياسية ممكنة في الإطار الإسلامي والتجارب في مراحلها الأولى (1)

راشد الغنوشي comments [at] alwasatnews.com

.

أولى الإسلام أهمية بالغة لعقيدة التوحيد وأشاد عليها كل بنيانه، حتى انداحت في كل مسلك للمسلم، وقد مثّل ذلك ضربة للشرك في كل أشكاله النظرية والعملية، ولذلك كانت دعوته ثابتة لوحدة الجماعة والتحذير من الفرقة والتشدد، دعوة إلى وحدة الدين ووحدة الجماعة ووحدة الكيان السياسي الإسلامي «الخلافة».

لكن الدعوة القطعية إلى التوحيد ونبذ الشرك والتفرق لم يكن معناها إلغاءً لسنة الاختلاف المغروزة، بحسب تعبير صاحب «الظلال»، في أصل طبيعة الإنسان، وذلك في معرض تفسيره الآية الكريمة «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم» (هود: 118 /119).

قال صاحب «الظلال»: خلقهم مختلفين، على ما يجمعهم من طبيعة واحدة، مختلفين في المدارك والأذواق والأمزجة والألوان والقوة البدنية والمهارات، ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة: في العقيدة واللون والقوة والاتجاه، ولكن لأنه أرادهم أحراراً فكان الاختلاف ثمرةً لكائن عاقل حر، ولم يكن شذوذاً عن الطبيعة بل هو مركوز في أصلها ومراد من مرادات الخالق الحكيم باعتباره مقصداً من مقاصد استخلاف الإنسان في الكون: أنه يصيب ويخطئ ويضل ويهتدي ويحسن ويسيء.

وهو مقصد الاستخلاف وتعمير الكون وابتلاء الإنسان بطبيعة مزدوجة تتزاحم فيها نزوعات الشر والخير، وبقدرات عقلية هادية وإرادة حرة قادرة على الاختيار وإرسال الرسل إليه عوناً لعقله، ليهتدي بنور الوحي، ادخاراً لجهوده أن تضيع في متاهات ميتافيزيقية لا قبل له بارتيادها، بحثاً في تفاصيل الألوهية والنبوة وقضايا المعاد والحلال والحرام والخير والشر، لطالما طموح البحث فيها بالعقل وراء الزمان والمكان، فضلّ وأضل منصرفاً عن مجال عمله الطبيعي المثمر في نطاق الزمان والمكان.

غير أن الوحي الإلهي انصب عمله على رسم الهيكل العام الذي يريده الله لحياة البشر من عقائد وعبادات وأصول الأخلاق، تاركاً في الغالب لعقول الناس التفصيل في أنظمة عيشهم، وفق ما يناسب أوضاعهم الاجتماعية ومستوياتهم الثقافية والحضارية، فإذ قد خلقهم أحراراً عاقلين وأنار عقولهم بالوحي بموجهات عامة لحياتهم، فقد غدا اختلافهم لا مناص منه قبولاً أو رفضاً للألوهية وللوحي من جهة، أو تنزيلاً لأصول الوحي العامة على واقع متبدل متنوع، من جهة أخرى.

تنظيم الاختلاف

ولا يجني من ذلك الاختلاف توخيهم لقيمة الشورى والتزامهم بها، إذ الشورى ليس هدفها استئصال الاختلاف من حياة الناس، وإنما تنظيمه بما يعيد مقداراً من الوحدة الطوعية إلى عالم الاختلاف والتعدد منعاً له من أن يتطوّر إلى قطيعةٍ وتحاربٍ وفتنةٍ داخل الجماعة، أو مسوّغاً للتجبر استطالةً على خلق الله.

ولكن، على رغم أن الأمر بالشورى هو اعترافٌ بالاختلاف وسعي لتجاوزه كلما تعلق الأمر باتخاذ قرار يهم الجماعة، فما ينبغي لواحد منها أن ينفرد بالتقرير فيه. ولكن كيف ستدار الشورى؟ ما شروط المستشار؟ وما القضايا التي يستشار فيها كل أعضاء الجماعة الرشد، وما القضايا التي لا يستشار فيها إلا الخاصة (أهل الحل والعقد)؟ وكيف الوصول إليهم في أمةٍ مترامية الأطراف؟ وما علاقة الخليفة بهذه الهيئة الشورية؟

ومعنى كل ذلك أن الوحي لا ينطلق من إنكار طبيعة الاختلاف في البشر وفي بنية الكون ذاته، فما ينتظر ذلك من دين الفطرة وإنما هو شأنه مع كل مكونات الطبيعة البشرية، يعترف بها ويعمل على تهذيبها وتطويرها في اتجاه تلبية حاجاتها وفض معضلاتها لتحقيق أعلى درجةٍ ممكنةٍ من الانسجام والتوافق بين طبيعة حرة عاقلة تنتج الاختلاف ضرورةً، وبين مراد الله في توحيده وعبادته، وفي وحدة جماعة المسلمين، على اعتبار أن عيش الإنسان في جماعة هو الآخر مغروز في أصل فطرته بموازاةٍ لميله الفطري إلى التمركز حول ذاته وابتغاء خيرها أو ما يحسبه كذلك، وإن كان على حساب ذوات أخرى، وهو ما من شأنه أن يمثل تهديداً لوحدة الجماعة، ما يقتضي ضروباً من الجدل والحوار والتفاوض بحثاً عن وفاق بين الإرادات المختلفة، فجاءت تشريعاته المتعلقة بجزئيات الحياة عامةً تاركةً ملء الفراغات لعقول البشر عبر الشورى، توصلاً إلى وفاق لا يلغي الاختلاف ولكنه يهذبه حتى يكون اختلاف تنوع ورحمة يغني الحياة، وليس اختلاف تناقض وصدام وتنافٍ يدفع إلى الفتنة.

إذاً، فالميل إلى الاختلاف جزء من طبيعة الإنسان اعترف به الدين ودعا إلى تهذيبه عبر الحوار والشورى والتربية على الأخوة والمحبة والرفق والسماحة، ونبذ التعانف والشقاق، وذلك توصلاً إلى مستوى من مستويات الوحدة مهما ارتفع لا يبلغ أن يكون وحدة بسيطة لا عوج فيها ولا أمت، إذ الواحد الأحد بإطلاقٍ هو الله وحده لا سواه، كل ما عداه صيغٌ نسبيةٌ للوحدة لا تنفي بالكامل ما بداخلها من اختلاف.

تلازم الشورى والاجتهاد

ويتأسس على أصالة منزعي الاختلاف والوحدة في طبيعة الإنسان وعلى مبدأ ختم النبوة واستخلاف الأمة - وليس ضرباً من ضروب الكنيسة - أمينة على الوحي في غياب الرسل، لزوم مبدأي الشورى والاجتهاد ما بقي إسلام ومسلمون، بحثاً عن صورة من صور الإجماع، إذ الاجتهاد كالشورى، تكليفٌ لكل مؤمن، فلكل مؤمن حظه من الاجتهاد وحظه من الشورى، وفق مستواه العلمي المعرفي وقدراته ومسئولياته في الجماعة، تأسيساً على مبدأ حرية الإنسان واستخلافه وختم النبوة.

ولأن ذلك سيقود حتماً إلى تهديد مبدأ وحدة الجماعة بسبب كثرة الاجتهادات، فقد وجب تنظيم الشورى حتى تنتقل من مجرد موعظة وقيمة خلقية إلى جملة من الآليات، إلى نظام للمشاركة العامة والخاصة في إدارة الشأن العام يسد باب الانفراد أو الفتنة (الفوضى)، وذلك عبر التداول في ما يطرح من آراء واجتهادات تتعلق بالشأن العام، توصلاً إلى مستوى من مستويات الإجماع حول موقف مشترك يوجه عمل الجماعة في مرحلة معينة، لأن ساحة الرأي والاجتهاد تتسع للتعدد، بل لا تنمو إلا في مناخه، بينما إذا تعلق الأمر بعمل تكون الحاجة ماسةً أن نكون يداً واحدة على من سوانا «إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص» (الصف/4).

فكيف السبيل في الجماعة إلى التوصل عبر الشورى إلى القرار الجماعي الذي يرفع الخلاف في مستوى العمل، حتى وإن أبقى عليه -حقاً للجميع- في مستوى الفكر، سواء كانوا جميعاً مسلمين أم كان أكثرهم أو أقلهم، على اعتبار أن المجتمع الإسلامي ومنذ مجتمع المدينة: أول اجتماع إسلامي في شكل دولة، كان تعددياً ضم مسلمين من قبائل ومستويات اجتماعية مختلفة، وفئات تنتمي إلى معتقدات أخرى، تولى دستور المدينة متمثلاً في «الصحيفة» تنظيم حقوق وواجبات المواطنة بينهم، ما جعل منهم على اختلافهم «أمة واحدة من دون الناس»، وفق تعبير الصحيفة، ليست أمة العقيدة وإنما هنا أمة السياسة، أي المشتركين في صفة المواطنة في دولة المدينة.

وعلى رغم ما حصل من انقلاب على نموذج الحكم الراشد حكم الشورى والتداول السلمي للسلطة، إلى ملك الجبر والوراثة، فقد استمر ذلك التقليد وتلك الثقافة على امتداد الزمان والمكان في بلاد المسلمين، حيث مثلت المجتمعات الإسلامية فضاءات واسعة للحرية والعدل والسماحة والاعتراف بحق الاختلاف بما جذب إليها خيرة العقول من كل مِلّة، حيث انفتحت فرص لا محدودة للحياة الآمنة، والإبداع والتعبير عن عبقريتها، من يهود ونصارى وصابئة ومانويين وزرادشت.

ربيع الاعتراف بالآخر

حتى إن العراق وهو الذي عرف ربيع الحضارة الإسلامية مدة خمسة قرون، لا يزال حتى اليوم فسيفساء من الديانات والنحل ليس لبعضها امتداد في أي مكان خارجه. وما شهد التاريخ بأن الدولة العظمى بفقهائها وقضاتها استهدفت أقليةً يوماً بالإبادة والاضطهاد، حتى عباد الشياطين والفروج والأشجار، ناهيك عن المذاهب النصرانية والفرق الإسلامية التي لا يكاد العد يأتي عليها.

وكذلك كانت كل المجتمعات الإسلامية مفتوحةً لكل مضطهد وكل كفاءة، كما كانت تنتقل منها وإليها وفي أرجائها الواسعة السلع والأفكار والأشخاص، مخترقة - في يسر كل الحدود السياسية لهذا الأمير أو ذاك - من دون حواجز، مما لم تسابق أفقه حتى الحضارة المعاصرة على تقدمها، ناهيك بخلائفهم المتخلفين، بما أصابهم من داء التخلف والضيق بالاختلاف والتعصب للرأي والسعي الدؤوب لتضخيم المختلف حوله واتخاذه مشروعاً للحرب الأهلية وللتنافي والشقاق، بدل إبراز جوانب الاتفاق والترفق في معالجة مواطن الخلاف، والتعامل معها في شكل حضاري، بدرء العنف في مواجهة صاحب أي فكرة مهما كانت غرابتها، إذ العنف فقط لا مشروعية له في غير مواجهة العنف بالمقدار المناسب من دون إسراف في القتل، مع ضرورة إبقاء باب التراجع والصلح أبداً مفتوحاً. ومما هو جدير بالملاحظة في هذا الصدد:

1 - أن تسامح المسلمين مع أهل المذاهب والديانات الأخرى كان ولايزال أرحب من تعاملهم مع بعضهم.

2 - أن المسلمين، وخلافاً للغربيين الوسطيين، كان ولايزال اختلافهم الأعظم وتحاربهم الأشد والأعنف ليس مبعثه الدين، وإنما السياسة، صراعاً على السلطة لم تحكمه آليات شورية تنقله من مستوى التحارب والعنف إلى مستوى صراع سلمي حضاري، من قبيل ما نجح فيه الغربيون، أن حوّلوا شورانا إلى آلة حكم تدير الاختلاف سلماً.

عرف تاريخنا تعددية دينية ثقافية مذهبية لم تعرفها أمة أخرى، وكان ذلك مصدر ثراء وازدهار واستقرار، ذلك على صعيد المجتمع الأهلي الذي كان غاية في السماحة والثراء عموماً، إذ غلب التعايش بين مذاهب السنّة والشيعة والخوارج والمعتزلة، بين الصوفية والسلفية، وبين أصحاب المذاهب، ولم تتعرض للحرب إلا الفرق المتطرفة العنيفة، فبادت، وما بقي منها غير جماعات الاعتدال في كل مذهب تقريباً. وكذلك عرفت مجتمعاتنا تعايشاً حضارياً نوعياً عجيباً مع أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى، ذلك على الصعيد الثقافي والديني، فكانت الشورى الفقهية والأدبية والمناظرات تجرى على نطاق واسع.

أما على الصعيد السياسي فقد خنقت الشورى، وغدت معارضة الحاكم سبيلها الأغلب هو العمل السري المفضي إلى الخروج المسلح، لكن الفقهاء، وإن اضطر تيارهم الرئيسي إلى إعطاء شرعية الأمر الواقع لحكام الجور، فقد تمكنوا من أن ينتزعوا منهم صلاحيات واسعة، حصرت سلطاتهم في جوانب التنفيذ، ليستقلوا هم بسلطة توجيه المجتمع ثقافياً، ويتولوا سلطة التشريع، عبر الاجتهاد، وسلطة القضاء بين الناس. وبذلك لم يتحول الحاكم الظالم ظلاً لله في الأرض، بل ظل ينظر إليه على أنه ظالم شاذ عن النموذج النبوي الراشد، وظلت الثورة عليه ممكنة بالتالي، وظلت الشريعة معترفاً لها من الجميع بالعلو فوق سلطة الحاكم، كما ظل النموذج النبوي الراشد للحكم مثلاً أعلى تلقنه الثقافة العامة للأجيال.

الشورى بمقدار ما كانت تعمل على نطاق واسع في المستوى الفقهي والثقافي وفي مستوى المجتمع المدني عامة، بمقدار ما حوصرت وصودرت في المستوى السياسي، لذلك لم تتطور الشورى في هذا المستوى إلى نظام يجتث النموذج الامبراطوري الفارسي والروماني، النموذج الفرعوني الذي ندّد به القرآن ولعنه، وإنما حاباه وتأثر بعض الشيء به وحاول تطويعه، وما ذاك إلا بسبب عمق وتمكن ثقافة وروح وأنظمة الاستبداد في العالم يومئذ، وهو ما يسّر الإجهاز على نظام الشورى في المجال السياسي وطوى صفحة الخلافة الراشدة لمصلحة النموذج الإمبراطوري المتأله السائد. فظلت الشورى كرمز إسلامي لحكم الأمة فارغةً من كل محتوى سياسي تقريباً، ظلت تنتظر تطور الفكر السياسي الغربي لينقلها من كونها قيمةً خلقيةً وموعظةً دينيةً إلى نظام سياسي يقرّ للأمة بأنها صاحبة السلطة تمارسها عبر آليات محددة، كتعدد الأحزاب، والاقتراع، وحرية الصحافة، واستقلال القضاء، ومبدأ التداول على السلطة. (يتبع

إقرأ أيضا لـ "راشد الغنوشي"

العدد 3456 - الأربعاء 22 فبراير 2012م الموافق 30 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً