العدد 3470 - الأربعاء 07 مارس 2012م الموافق 14 ربيع الثاني 1433هـ

تنمية العقل لا تنفعها «الدَّندَنَة»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ليس غريباً أن يُصبح الشيء ذاته مختلِفاً في مكانيْن. لكن الحقيقة تلك، لا تقِف عند حدِّ ما ذكَرتْ، لأن تلك الأشياء هي مختلفة أيضاً، عندما نقارنها بالأزمنة. فدقيقة اليوم ونحن في العام 2012 تختلف عن دقيقة العام 1800 في سرعتها. فالدقيقة، تتأثر بالظروف وبالطرق التي تجعلها زمناً مستهلَكاً. وكلما كانت تلك الدقيقة قليلة الاشتراك مع عوامل أخرى من وسائل وارتباط وغيرها، أصبحت أطول، من مثلها عندما تشترك مع كل تلك الأمور، وهو حال دقيقة زماننا اليوم، وقد أصبحت أسرع مما يجب، نتيجة التطور الهائل في وسائل الاتصال.

لو افترضنا أن رجلاً عاش في العام 1600 بعمر قارَبَ السبعين عاماً، وآخر عاش العمر ذاته لكن فجره قد بزغ على العام 2012 ماذا سنرى بينهما من فوارق فيما خصّ ساعات يومهما؟

الرجل الأول، وعندما يهمّ بالمسير نحو منطقة جغرافية تبعد عن سكنه 150 كم فإنه سيستهلك سبعة أيام في أفضل الأحوال لو استخدم البغال أو عربة يجرها. أما الآخر، فإنه قد يقضيها في بحر نصف ساعة لو ذهب إليها بالطائرة في أفضل الأحوال، وإن افترضنا أسوأها فلن تزيد عن الثلاث ساعات لو استخدم السيارات العادية في رحلته تلك.

ولو افترضنا أن الرجليْن يذهبان إلى تلك المنطقة، بهدف العمل والتجارة 52 مرة في العام، فهذا يعني أن الرجل الأول سيستهلك 364 يوماً من السفر، وهو بالمناسبة يغطي عدد أيام السنة كلها، في حين أن الرجل الثاني لن يحتاج إلاَّ إلى يوم وساعتيْن للمرات ذاتها الـ 52 التي قصَدَ فيها السفر. إنه فارق كبير، ومهول في الكلفة الزمنية. وهو بالمناسبة، يأكل من عُمرَيْ الرجليْن في نهاية المطاف. فالأول تحترق أيامه وساعاته في السفر والمشقة، بينما الثاني يستطيع أن يستثمرها في أشياء أخرى كالراحة والاستشفاء، بجانب حصوله على المراد ذاته.

ما أرمِي إليه بالتحديد من كلّ ذلك، أننا اليوم لدينا فائضٌ كبير من الزمن. هذا الفائض، هو مثل ذلك الفائض في الأموال لدى الأغنياء. وفي أحيان كثيرة، يبطر الأغنياء عندما يفترشون الدنانير على وسائدهم، فيضيع المال هباءً منثوراً من دون حساب. في الزمن، الحال كذلك. فكثيرون هم الذين يُبذرون ساعات زمانهم في اللاشيء، ودونما حساب ولا فائدة. الفارق بينهما هو أن ثراء المال محدود في شياعه بين البشر، في حين أن الزمن مُشاع للسواد الأعظم من الناس، وهو ما يزيد من ثمنه البخس. فالتراب أقلّ ثمناً من الذهب، لأن الأول تفيض به الأرض، بينما الثاني تحبسه في أعماقها ببخل وشح.

هذا الأمر يبدو محزناً في زماننا، وخصوصاً للجيل الصاعد. فاليافعون، أو حتى الأطفال اليوم، أصبحت دقائقهم وساعاتهم بل وأيامهم بلا قيمة تذكر، نتيجة التبذير المفرط في الوقت. جيلٌ التهَمَته التكنولوجيا والعالم الافتراضي بشكل مخيف. صغارٌ لم يبلغوا الحُلُم بعد، تراهم يتسمَّرون على شاشات هواتفهم وفي وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مبتذل، أو يتناوبون على برامج التسلية، التي لا تزيد من حجم عقولهم شيئاً يذكر. هذا الأمر يبدو سهلاً لأولياء الأمور، لكنه على المدى البعيد سيخلق مشكلة في أحجام هذه العقول.

فالعقل مثل الحساب المصرفي، لا يكبر حجمه ويتسع إلاَّ بالإيداع فيه كلّ حين. لم يعد الكتاب، ولا العصف الذهني بحاضر أمام هذا الجيل بالمطلق. لا تغرينا كثيراً قدرة هذا الجيل على محاكاة التكنولوجيا، وسرعة الضغط على الأزرار، لأن ما هم فيه لا يعدو كونه عالماً غير مرئي، ولا يدخل ضمن التنمية الشخصية المباشرة، التي عادة ما تسجلها عبادة الكتب، وتدوين المبهم منها، والبحث عنه، أو الاستزادة بشأنه. هذه القضية، يجب أن تشغل الأسر والمراكز التربوية والتعليمية. فالديكور جميل جداً، لكنه لا يثبت إلاَّ على أشياء راسخة جداً.

عندما نسمع، أن متوسط قراءة الإنسان الأوروبي قد بلغت 200 ساعة سنوياً، في حين لا تتجاوز نسبة قراءة الإنسان العربي سوى ست دقائق سنوياً، فإن هذا أمر يبدو مريعاً حقاً. أتذكر، أنني كنت في إحدى الزيارات إلى جنوب آسيا، وفي المطار كانت هناك عائلة أوروبية في قاعة الانتظار، وقد فتح أفرادها حقائبهم الصغيرة، وتناولوا كتبهم، ينتظرون ساعة إقلاع الطائرة. في المقابل، كان هناك آخرون من إحدى الدول العربية، وقد افترشوا المكان للطعام أولاً، ثم للتفكُّه والمِراء ثانياً، بينما استمرأ الباقي منهم التوسُّد والنوم.

قد يقول قائل، إن التعليم يُمكنه أن يغطي نسبة القراءة المأسوف عليها، وهذا خطأ. فالظرف الذي يقرأ فيه الطالب كتاب المدرسة يختلف كلياً عن الظرف الذي يقضيه في قراءة كتاب آخر. ففي الأول هو مُكرَهٌ عليه، وفي الثاني هو قاصِد له بإرادته. وبين الإكراه والإرادة يمكننا أن نلحظ حجم التأثير بين الظرفيْن. وإذا كنا نشكو من سوء التعليم ووسائله ومناهجه، فلماذا نستند إليه في هذه الجزئية إذاً. إنه لتضليل شخصي، الذي قد يلجأ إليه البعض، إقناعاً لنفسه، وليس شيئاً آخر.

في كلّ الأحوال، فإن قيمة حياتنا، وحياة أجيالنا مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بطريقة إدارة أوقاتنا. وهذه الإدارة، مرتبطة هي الأخرى، بمسألة إعمار ما لدينا، وما كُلفنا بإعماره على هذه البسيطة. ولا يُمكن لإنسان أن يحسن من وقته وحياته، من دون أن يقرأ. وهي الكلمة التي أنهضت البشرية، وكانت أول كلمة نطق بها الوحي على نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام. وكما قال الفقيه والأديب الأندلسي ابن عربي: «الحكم نتيجة الحكمة، والعلم نتيجة المعرفة، فمن لا حكمة له لا حكم له، ومن لا معرفة له لا علم له»

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3470 - الأربعاء 07 مارس 2012م الموافق 14 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 5:19 ص

      معدل القراءة..

      شكرا لكم على المقال الهادف..ولكن أعتقد أن نسبة القراءة عند الجيل الصاعد في البحرين لا يتفق مع تقديركم بالخصوص مع تزامن الربيع العربي أصبح معظن أفراد الشعبي يتداول القراءة بكل أطيافها الثقافية والعلمية عبر تعدد برامج التواصل الاجتماعية كواتس اب على سبيل المثال وتويتر وغيرهم وأنه مؤشر يبشر بالخير مستقبلا..
      تحيات أبوجعفر

    • زائر 8 | 4:33 ص

      لصاحب المداخلة رقم 6

      كان علماؤنا الكبار وفلاسفة التاريخ يأكلون ما يسد الرمق فقط لكي يسهروا على التأليف والنظر في الفكر ولا اعتقد ان موضوع الأكل والشرب له أهمية قصوى في أن نكون نقرأ أو لا نقرا

    • زائر 7 | 2:17 ص

      لكن يمكن الاشارة قد تكون صحيحة المقارنة بننا والاوربين

      هل هذه المقارنة صحيحة لا ادري لكن القراءة له جوها ومحيطها وظروفا الانسان ومحيطه وبيئته تؤثر عليه ، اذا ولي الامر بالكاد يوفر الاكل والشرب والسكن والولد يسمع الحوار والشكوى بين الام والاب وكذلك الاب ليس له وقت يجلس مع ابناءه وتمديد الدراسة مسيس وكل الظروف محبطة حول الشباب ، ماذا تريد منهم غير قتل الوقت بما ذكرت !
      بيما الاوربي جميع السبل متوفرة ،هل يمكن المقارنة ، ارجو ان يكون كلامي فيه شىء من الصحة .

    • زائر 6 | 12:59 ص

      جوهر المقال

      (فالعقل مثل الحساب المصرفي، لا يكبر حجمه ويتسع إلاَّ بالإيداع فيه كلّ حين)

      سلمت أناملك

    • زائر 5 | 12:30 ص

      تعجبني امثالك كثيرا ايها الكاتب المحترم فهي تصيب الحقيقة

      لو افترضنا أن رجلاً عاش في العام 1600 بعمر قارَبَ السبعين عاماً، وآخر عاش العمر ذاته لكن فجره قد بزغ على العام 2012 ماذا سنرى بينهما من فوارق فيما خصّ ساعات يومهما؟

    • زائر 4 | 12:11 ص

      العلم والعمل

      (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه )فكم بقى من الوقت لينام فيه ؟!
      أنفاسك نفسك أنفاس الجنان ِ فهل تشري بها لهبا ً في الحشر ِ يشتعل ُ ماعذرُ من بلغ َ العشرين إن هجعت عيناه ُ أو عاقه ُ عن طاعة ٍ كســــــــــــل ُ. عجبي في الذين يقضون ساعات الليل ، في المجالس تاركين ابنائهم عند التلفاز . فأين العلم والتعلم والمثابره . يقول الامام الصادق وددت لو اضرب اشيعتي على طلب العلم. فلو نامت النحله ماوجد العسل . والختام اشكر اخي العزيز الكاتب .

    • زائر 2 | 11:00 م

      الصنعة والمصنوع

      اجيالنا يا اخ محمد تعتقد بان العلم كله في البلاك بيري والايباد لكن ما يدرون ان العلم هو في طريقة صنع مثل هذه الاجهزة
      شكرا على هذا الموضوع

    • زائر 1 | 10:59 م

      جيل الـ PSP

      كالعادة، مقالك رائع و ثري ، اما بالنسبة "للقراءة" فأنا احاول ان اكون قدوة لولدي (10 سنوات) .. لدي مكتبة بها مئات الكتب والقصص للكبار والصغار.. احاول ترغيبه في القراءة بشتى الوسائل ولكنه يكره شيء اسمه "قراءة" .. وإذا اضطر لها فيقسّّمها على أيام! هذا الجيل بليد و سطحي و ضحل الثقافة والعقل .. وكما قلت سيخلق لي مشكلة لاحقا! لأنه سيكون غير قادر على مجاراة الحياة و لا فهم ما يدور حوله لأن حياته اختصرها في التلفاز و البي إس بي!

اقرأ ايضاً