حين أوقف المواطن (جاسم) وهو أب لطفلين وكان حينها في انتظار مولوده الثالث عن العمل، لم يقف مكتوف الأيدي وهو يحمل مسئولية أسرة يلزم عليه توفير احتياجاتها المعيشية، ومع أنه يعبر بصراحة عن أنه غير نادم على مشاركته في الحراك المطلبي بعد أن وشى الواشي به وبعدد من زملائه من خلال تقديم صورة مشاركتهم في إحدى المسيرات محاطة بدائرة حمراء، إلا أنه قرر أن يثبت على مطالبه المشروعة التي لا يرى فيها أي (خيانة) للوطن، ومضى في طريق طلب الرزق بلا يأس.

ولخبرته في مجال ميكانيكا السيارات، فتح الله عليه باب رزق كريم فقد كان يستقبل سيارات المعارف وغيرهم من الجيران والأهل والزبائن ليقوم بعمله في مجال تصليح الأعطال، وهو يرى أن معاقبة أي مواطن في رزقه بناء على تهمة تتعلق بالتعبير عن الرأي هي بمثابة (عار كبير) لأي مجتمع يدعي الديمقراطية، بالإضافة إلى أن التضييق على أي مواطن في رزقه بسبب تعبيره عن موقف أو رأي أو رفض لفساد أو سرقات أو ما إلى ذلك من قضايا، لا تقره الأديان السماوية كلها كما لا يقرها العرف الاجتماعي ولا القوانين، وعلى أية حال، فالله سبحانه وتعالى تكفل بأرزاق الناس، وليفرح الوشاة بما وشوا فذلك مسجل في ميزان أعمالهم.

والمواطن (جاسم) من بين آلاف الموقوفين والمفصولين عن العمل، وملفهم يعد من الملفات الكبيرة التي أخذت بعداً إقليمياً حيث وصل إلى منظمة العمل الدولية ومنظمات دولية عديدة عربية وغربية، لكن الملفت للنظر أن شريحة كبيرة من الموقوفين والمفصولين تحدّوا الظروف الصعبة التي كان من المفترض أنهم سيمرون بها، بل ومروا بها فعلياً، بسبب توقف مصدر رزقهم وصعوبة تغطية متطلبات الحياة المعيشية الثقيلة، فبحث كل واحد منهم بما تسعفه الخبرة والمهارة والحرفة والعلاقات لإيجاد وظيفة مناسبة، فيما اتجهت شريحة أخرى للبيع.

بين الوزارة واتحاد النقابات

وكان الأمين العام للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين سيدسلمان المحفوظ قد طالب بإنهاء ملف المفصولين بحلول شهر أبريل/ نيسان 2012، وذلك تنفيذاً لما جاء في الاتفاق الثلاثي بين أطراف الإنتاج (وزارة العمل، وغرفة تجارة وصناعة البحرين، والاتحاد العام لنقابات عمال البحرين) بخصوص إرجاع المفصولين، حيث يتوجب على المؤسسات الكبرى مع 20 مارس/ آذار 2012 تقديم خطة إدماج المفصولين في موقع العمل على أن تنهي تسكينهم في وظائفهم وعدم المساس بحقوقهم مع الأول من أبريل 2012، بينما ستستمر اللجنة الثلاثية حتى الانتهاء من عملها قبيل مؤتمر العمل الدولي أي في نهاية مايو/ أيار المقبل.

لكن على الطرف الآخر، أعلنت وزارة العمل أن 179 من العمال المفصولين بسبب الأحداث الأخيرة، رفضت الشركات إعادتهم إلى أعمالهم لأسباب مختلفة، وتمت متابعة ملفاتهم من قبل الوزارة للتوصل إلى الحلول المناسبة، وفي الوقت ذاته، رد الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين سلمان بأن الثابت لدى سجلات الاتحاد حتى الآن وجود 1674 مسرّحاً في القطاع الخاص والشركات التابعة لممتلكات، بالإضافة إلى وجود 854 بين مفصول وموقوف في القطاع العام والهيئات الحكومية لم يعادوا إلى أعمالهم بعد، مع استعداد الاتحاد لنشر البيانات الكاملة بالأسماء والأرقام الشخصية وتاريخ الفصل وبشكل دقيق حالة حالة.

الإعلام الاجتماعي يساند المفصولين

وحتى بالنسبة للعمال والموظفين الموقوفين والمفصولين، فإن المتابعة مع وزارة العمل وديوان الخدمة المدنية واتصالهم المباشر مع الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين يعكس موقفهم في عدم التنازل عن حق مشروع من حقوق المواطنة أياً كانت الاتهامات والأسباب، لكنهم، ومع أنه لم يثبت حصول أحد منهم على إعانة التأمين ضد التعطل، بدأوا بكل عزم على ألا يرضخوا لظروف معيشية مهينة مهما كلف الأمر، وهذا ما يقوله المواطن جعفر ميثم آل سبت الذي فصل من عمله بالقطاع الخاص، وسعى لكسب لقمة عيشه إلى أن اتجه إلى البيع المتنقل، واختار بضائعه من الفرش والبطانيات والمخدات لأنه وجد في هذه البضائع طلباً جيداً من جانب الزبائن.

ويعبر جعفر عن وضعه بعد فصله من العمل: «من الصعب أن تواجه قراراً مفاجئاً بفصلك عن العمل أياً كانت الأسباب، ولكن هذه الصعوبة هي التي تقودك لأن تسعى لكسب رزقك بالتخطيط والتوكل على الله... أنا اخترت هذا المكان عند مدخل قرية أبوبهام (عذاري)، وكذلك أعمل وفقاً للظروف في الأسواق الشعبية المتنقلة، بل ولديّ من إخواني وأصدقائي من يعمل معي وكلنا يد واحدة في طلب لقمة العيش والله كريم».

ولا تخلو حسابات الإعلام الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر من الإعلانات والدعوات التي تنشر بين الحين والحين للتعريف بمفصول لديه خبرة في السباكة، وآخر لديه استعداد لتصليح أجهزة الحاسب الآلي، وثالثة بدأت عملها في مجال تحضير الحلويات والأطعمة للمناسبات من منزلها، وآخرين وآخرين وآخرين... جمعهم الإصرار على تحدي الظروف وإيجاد لقمة العيش الكريمة لأسرهم.

يعودون معزّزين مكرمين

ويشير آخر بيان صادر عن وزارة العمل إلى أن عدد العمال المفصولين بلغ 2462 عاملاً، وأن 937 مفصولاً عادوا إلى أعمالهم حتى الآن بصورة فعلية وانتظموا فيها، فيما وافقت الشركات على إعادة 608 مفصولين إلى أعمالهم وهم في طور إنهاء إجراءات الإعادة وأبدوا موافقتهم على ذلك بمساعدة الجهات المعنية في وزارة العمل، كما أشارت الوزارة إلى أن 291 مفصولاً توظفوا في شركات أخرى، وأن 44 مفصولاً وافقت الشركات على إعادتهم لكنهم رفضوا العودة إلى أعمالهم وأغلقت ملفاتهم، فيما لايزال هذا الملف واحداً من أثقل الملفات التي حملها الاتحاد العام لنقابات العمال في تاريخه مع التضارب المذهل بين بيانات الوزارة وملفات المفصولين لدى الاتحاد الذي أعلن مراراً وتكراراً أنه لن يتخلَّ عن هذا الملف الوطني الكبير إلى حين عودة جميع المفصولين معززين مكرمين إلى وظائفهم.