العدد 3495 - الأحد 01 أبريل 2012م الموافق 10 جمادى الأولى 1433هـ

السياسة العربية وفقه التأجيل

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

التأجيل في اللغة: التأخير والإرجاء.

اللغة فاضحة وتحوي نقيض معانيها وتعريفاتها في الوقت نفسه. في اللغة نقف على أجّل أجلاً أي حدّده ومصداقه «وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا» (الأنعام: 128) معنى آخر أكثر رقياً وإحساساً بالمسئولية، إلى النقيض من ذلك في التحديد والاحترام للزمن والمرتبطين به. لكن في السياسة العربية يظل الانحياز إلى التأجيل الذي لا وقت له وفيه إحدى سنن السلوك الراهن. وليس الوقت هو المسألة. المسألة تكمن في أن التأجيل بمفهوم ذلك الفقه المبتكر يظل هو: الطيّ والنسيان والنفي وكأن شيئاً لم يكن.

الدول لم توجد وتراكم خبراتها ولم تحقق إنجازاتها وتحاول أن تجد لها موطئ قدم في الحراك الإنساني بفعل سياسات التأجيل. حتى الأشجار التي تُهمل من دون ريّ لن تنمو وتتطاول بالتأجيل. الجياع الذين يربكون واقع العالم اليوم، والمنتهكة حقوقهم لن يهدأ لهم بال ولن تستقر معداتهم ولن يقتنعوا بكرامتهم بفعل التأجيل. طوابير من الشهداء لن يفتر لهم دم بفعل تأجيل الحق في القصاص من قتلتهم. الجرحى والمكلومون لن يمثل لهم التأجيل مضاداً حيوياً يتكفل بكل معاناتهم الطويلة. حتى الشوارع المظلمة لن تكون شوارع بظلامها بفعل خطط ومخططات التأجيل.

هذا التأجيل الذي تحول إلى فقه في سياسات التبرير والمؤقت من الحلول، لا يكشف ولا ينم عن حرص على «القطيع» الذي تقوده تلك السياسة بقدر حرصه وتحصينه للذين قُدّر لذلك «القطيع» أن يقاد من قبلهم.

هذا التأصيل الذي تحول إلى فقه هو الذي راكم الكوارث والعذابات والانتهاكات والمصادرات والتجاوزات والنهب والاستيلاء واعتبار الأرض ومن يملكها مُلْكاً خاصاً به، يُسوَّر بالقوانين المفصّلة بمقاسات خاصة ومحددة؛ ويحاط بمنظومة أمنية تضمن بقاء الحال على ما هو عليه بالنسبة إلى المتضرر؛ ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى المستفيد منه.

التأجيل في حد ذاته؛ وبتكراره واعتباره سلوكاً وعادة وتقاليد فكر ينمّ ويكشف عن خلل في السلوك واضطراب وتمسك بالعادة مهما كانت مهتزة وغير مقنعة ولا تتواءم مع طبيعة الحياة وتوجهها، وهي في المحصلة انعدام فكر وتفكير أساساً.

الأمم التي تتبنّى سياسات وتوجهات ومواقف كتلك هي خارج قراءة الواقع؛ وخارج قراءة حجم التهديدات التي تحيط بها وهي نائمة عليها! قبل التهديدات التي تتبنّاها وتمثلها بهيمنتها على «رعايا» في ظل أكثر من صُدْفة من الزمن والتاريخ والغفلة التي تحاصرها.

حتى العرب في جاهليتها لم تعرف للتأجيل معنى في قراراتها المصيرية. الغزو كان شاهداً حياً على رغم خسّته وانحطاطه بالمعيار الأخلاقي الحضاري، وعلى رغم عدم اتساقه مع قيمة الحياة وتهديده للاستقرار؛ لكننا في جاهلية نظم منعزلة في جزر نائية عن شعوبها وتحكمها عن بعد وعبر أكثر من جهاز تحكم. نظل مرغمين على الوقوف أمام مشاهد وصور ونتائج مخزية لا تنتمي حتى إلى عصر ما قبل اكتشاف النار، وعصر ما قبل اكتشاف التحية!

في السياسة العربية، أجِّل الأمر أي أدخله إلى مساحات من المجهول والنسيان والتبرؤ منه بشكل أو آخر. وفي ذلك احتقار للزمن ورعايا الزمن نفسه.

حين تؤجل أمراً وخصوصاً إذا كان مصيرياً تظل مشغولاً، مسكوناً وعلى التصاق به بحثاً عن مخرجات وحلول وأفق يأخذ به إلى صيغة تحقق الممكن من النفع واليسير من الضرر.

وفي السياسة العربية تأجيل قرار يذهب في النهاية إلى فعل وليس نية الأخذ به إلى غيابة النسيان. والزمن كفيل بمواراته في انتظار قرار شقيق وموازٍ له يوارى بالقرب منه.

يبقى القول إنه يراد في تأجيل أي قرار مصيري يمس الخلْق، وتشكيل لجان تتبعها لجان تتبعها لجان تتبعها لجان، إيصال رسالة نصية قصيرة (sms) مفادها: حاولوا أن تشيعوا بينكم وآمنوا بمبدأ وقاعدة «عفا الله عمّا سلف»؛ على رغم الخسف والعسف والقصف والقتل اليومي والسرقات التي لم تعرف طريقها إلى الانتهاء وبغطاء سياسي وتشريعي.

يمر الزمن. تشيخ السياسات التي تراهن على إرهاق الشعوب بذلك التأجيل ولكن كل ذلك يمنح الشعوب مزيداً من الحيوية والإصرار على الوقوف على حقيقة ومرامي ذلك التأجيل الذي يبدو أنه لن ينتهي والذي تحول إلى منظومة داعمة لمشروعات انتحار لا يغذيه الفراغ فحسب؛ بل يغذيه التجاهل للمآزق والمشكلات والكوارث والتهميش الذي يحياه الإنسان (مفرد الرعية) لحظة بلحظة إذا ما أردنا أن نكون أكثر تحديداً ودقة واحتراماً للّغة والواقع المفروض علينا؛ ولن يكون كذلك في المستقبل القريب.

لم يؤخر الحياة العربية ويضعها في هذه المرتبة المخزية من التواكل على العالم عبر اللاإنجاز الفاضح قبال إنجازات الأمم المذهلة بشكل لحظي وليس يومياً فحسب سوى سياسة التأجيل، سوى انتهاكات تقابل بـ «عفا الله عمّا سلف». لم يؤخرها سوى هذا العبث في الاستهانة بالحقوق سوى النظر إلى الوقت باعتباره جارية يمكنها الانتظار مهما تأخر سيدها كي يحقق وطره منها.

الخلاصة: قمة بغداد الأخيرة ليست بمعزل عن سرد العبث الطويل الذي عرّجتْ عليه هذه المقالة. ولكم في العبث عبرة يا أولي العقول الغائبة والمؤجلة في الوقت نفسه!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3495 - الأحد 01 أبريل 2012م الموافق 10 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً