دخلت السينما الألمانية مرحلة من الانتعاش والبهجة، فحصتها في السوق الألمانية جيدة والنجاحات في الخارج أفضل وأفضل، ومن هذا القطاع الذي كان قبل سنوات يكثر اللوم على نفسه لسوء الأداء يخرج الآن حائزون على جوائز في مهرجان برلين السينمائي وعلى جوائز الفيلم الأوروبي والأوسكار ومخرجون يتمتعون بثقة في الذات ينطلقون إلى مسابقة مهرجان كان بأفلام انتجوها بكاميرات رقمية صغيرة. مضى ذاك الزمان الذي كان فيه المنتجون الألمان ينسحبون من المهرجانات الدولية وهم يزمون شفاههم حسرة ولدى استقبال الفائزين الآخرين، يهمسون لأنفسهم بموال الهوان (عشر سنوات من دون أي فيلم ألماني في كان! ثمانية عشر عاماً لم نحصل فيها على جائزة الدب الذهبي في برلين!)، في الواقع ان لنا مكانتنا الآن لكن من نكون نحن؟
نحن، أي الجهات الداعمة للسينما التي تفتخر بنسب توزيع الكوميديا الجنسية «سبعة أقزام في الغابة» ولا تهتم بالمخرجين الشبان، نحن أي المسئولين عن السياسة الثقافية، الذين يضعون على صدورهم أوسمة نجاح الأفلام في المهرجانات، ويصدرون القوانين الجديدة التي تعوق دعمها بصورة منهجية، نحن الشلل الموجود دائماً في الوسط، والتي تثرثر في الحفلات وتنام في اللجان وتظل حاضرة في كل حفلات الاستقبال في مهرجان برلين السينمائي.
كليشيه لأوروبا متحدة وسعيدة
وهم، الآخرون، ينتجون أفلاماً وسيشاركون في مهرجان برلين بحضور واثق وغير معهود، ثلاثة أفلام تدخل مسابقة هذا العام، وهي مختلفة عن بعضها بعضاً تمام الاختلاف، فالفيلم الأول يحكي عن الأيام الأخيرة في حياة مناضلة والثاني حدوتة عن أشباح في برلين المعاصرة والثالث فيلم مكون من قصص قصيرة عن السرقات في أوروبا مليئة بالسياح ونجحت الأفلام الثلاثة في شيء قد يبدو في البداية أنه بسيط، بالمخرجون مارك روتموند وهانيس شتور وكريستيان بيتسولد طوروا قصص أفلامهم من خلال شخوص اعترفوا لها باستقلاليتها، فالمشاهد الأولى لأفلامهم تخلق هالة من الرؤى الساعية إلى إيجاد شكل متميز لها، مثلاً في الكوميديا الأوروبية المناهضة لأوروبا «يوم في أوروبا» تدخل شخوص الفيلم شاءت أم أبت في دور الباحث الإنثولوجي المتجول، تتعرض إنجليزية متوترة الأعصاب لعملية سطو في فوضى مدينة موسكو وتقوم متقاعدة روسية بحمايتها، أحد مجانين موسيقى التكنو الألمان يحاول تقديم شكوى لأن شركة تأمين نصبت عليه في اسطنبول، ومجري يأتي إلى إسبانيا لزيارة الكنائس، ويتعرض للسرقة ثم يصاب باليأس نتيجة لخمول الشرطة الاسبانية، اما الفرنسي وصديقته فيشهدان كيف أن الشرطة الألمانية تأتي دائماً قبل وقوع الجريمة، صنع شتور من خلال عرض العقليات الوطنية وهدمها، صورة لأوروبا لا تكترث بالسياسات الكبرى ونموذجها اليومي المتمثل في سوء التفاهم.
في «يوم في أوروبا» يحاول الناس التفاهم بكل السبل من دون جدوى، في حين أن أقلهم فهماً هو أكثرهم تبيناً للموقف، من الأحكام المسبقة وأنصاف الحقائق تنبثق الممارسة المعقدة المضطربة للتجاور الثقافي التي تتميز أحياناً بالصفاء، تقول المتقاعدة الروسية: «هذه هي أوروبا»، وتعانق البريطانية المسروقة في نقطة الشرطة في موسكو، فيما يركز الشرطي على مباراة كرة قدم ينقلها التلفزيون بين غالاتاسراي اسطنبول وديبورتيفو لا كورونيا وفي خليفة المباراة مشهد القبض على مشجعين إسبان مخربين.
الفليم الألماني الثاني في المسابقة لمخرج يقدم منذ عدة سنوات أفلاماً فريدة في ساحة السينما الألمانية، فبأفلام مثل «الأمان الداخلي» و«وفولفسبورغ» صور كريستيان بتيسولد قصصاً عن الجريمة والعقاب في مجتمع السيارات المعاصر والشروط اللازمة لتجربة عن بقايا الإرهاب في عائلة صغيرة في فيلمه الجديد «اشباح» يحافظ على التجريد، لكن الشعور يأتي بالإضافة إلى ذلك بلا توقف بنجذب المشاهد الى قصة عن الشوق والخسارة، من البداية يخيم على برلين حزن مبهم فالمشهد الأول يعرض لرحلة بالسيارة على طريق المدينة السريع وللوحات الارشادية الرمادية المتكررة وواجهات البيوت ثم يعلو لحن باخ الغناي «لدي هم كبير» على أصوات الضجيج.
يحكي فيلم «اشباح» عن فرنسية اختطفت ابنتها في برلين قبل سنوات عدة، وعن شابة تظن المرأة أنه تعرفت فيها على ابنتها، تعيش الفتاة في مشروع سكني وتلتقي فتاة هائمة وتقع في غرامها تعيش لحظات من الأمل والاحاسيس المرهفة. ويجعلنا الفيلم ندور مع البطلتين لفترة من الوقت عبر برلين عبر حديقة الحيوان «تيرغارتن» وعمود النصر وميدان بوتسدام حتى يحدث اللقاء المصيري مع الأم صفاء الضوء النهاري ليصف برلين وحفيف الأشجار ودوي الريح، والضجيج المروري كل ذلك يأتي خبرة ثانوية وكأنه حلم، ذكرى أو حدوته ربما لا يتحقق وجود شخوصها واستمرار بقاء هذه الشخوص إلا من خلال الشوق إلى الآخر. حقاً قد لا يوجد في هذا الفيلم الذي تم تصويره بهدوء يصل إلى درجة التنويم المغناطيسي سوى شوق مجهول محموم لامرأة نحو طفلتها. في قلب الفليم نرى مشهداً مهزوزاً عن الصدمة المروعة التي لم تتجاوزها الأم، إذ تصور كاميرا المراقبة في أحد المتاجر فتاة صغيرة في عربة تسوق، تسحبها يد غريبة ببطء من أمام الكاميرا.
ربما تخلق أعظم الاحاسيس السينمائية من خلال قصص هادئة وغير مثيرة. ربما يكون اهتزاز المشاعر العميق مثل زلزال دفين تبدو اهتزازاته في وقت متأخر وفي مناطق أخرى. وربما يكون حظ السينما الألمانية الكبير أن مارك روتموند اختار في تصوير فيلمه عن صوفي شول المناضلة الألمانية ضد النازي، أسلوباً بروتروكولياً متحفظاً، ورفض دوماً أية احتفالية في عرض القصة وبالتالي حال دون الاحتضان الوطني لبطلة المقاومة التي أعدمت العام 1943 وعمرها واحد وعشرون عاماً. يحكي الفيلم عن آخر أيام شول من خلال محاضر التحقيق، يتتبع أكاذيبها التي لم تكن متسقة مع بعضها تماماً، واعترافها الحماسي بالانتماء إلى المقاومة، والحوار الساخن بينها وبين المحقق الذي بدأ في الاهتزاز بصورة غير ملحوظة. يجعل روتموند من وجه بطلة فيلمه يوليا ينتش مساحة لإسقاط كل ما لا يمكن حكيه إلا بأكبر جرأة ممكنة. ويعرض بدقة لدوران عجلة البيروقراطية، والالتفاف البطيء لحبل المشنقة حول عنق شول وسيرها غير المتردد إلى سقالة الإعدام. إنه يقدم صوفي شول كبطلة ولكن ليس كبطلة ألمانية. إنها المقاومة الوحيدة المنعزلة، التي لا تنتمي إلا لذاتها، والتي سيظل إعدامها أمراً لا يغتفر، أمراً مقززاً وعبثياً.
شخوص عظيمة، رؤى عظيمة، مشاعر عظيمة. تثبت السينما الألمانية من خلال فيلم «صوفي شول» لروتموند و«أشباح» بتسولد و«يوم في أوروبا» لشتور أن لديها مستوى جمالياً لم يكن يُحلم به قبل سنوات. يتزامن ذلك مع قدوم مهرجان برلين السينائي برئاسة ديتر كوسليك، والذي تطور - بعيداً عن سياسة الحصص - ليصبح ساحة لعرض الأفلام الألمانية، ومكاناً لجذب الأجيال السينمائية القادمة. تحت عنوان: «رؤية للسينما الألمانية» تقدم مجموعة عروض لسينمائيين ناشئين، وهذا العام يعرض الفيلم الأول للمخرج روبرت تالهايم ويحمل عنوان: «صافي» NETTO، ويتناول الفيلم آثار الإصلاحات الاقتصادية الجديدة في ألمانيا على الناس والأجواء المهيمنة في ظل الوضع الاقتصادي المتردي. يحكي الفيلم عن برليني شرقي سكير، ممن ضاع مستقبلهم بعد الوحدة الألمانية، يكثر من الحديث عن مشروعات مستقبلية لا تتحقق. وعندما يأتي ابنه المراهق لزيارته لأيام في بيته المهلهل يحدث الصدام، بين أكاذيب الأب والواقعية الضجرة للشباب البرليني، بين بكاء الأب وحنينه على أيام الشرق الغابرة ورؤية مستقبلية لجيل يرفض أن يملي عليه الغرب أي شيء. تكشف سخرية فيلم «صافي» NETTO عن مأسوية المصير.
بعبارة أخرى: قامت السينما الألمانية بعملية الإحماء استعداداً للانطلاق. والآن يبدأ مهرجان برلين السينمائي.
كاتيا نيكوديموس
كاتيا نيكوديموس تدير قسم التحرير السينمائي في أسبوعية «دي تسايت» الألمانية
العدد 1475 - الثلثاء 19 سبتمبر 2006م الموافق 25 شعبان 1427هـ