العدد 3545 - الإثنين 21 مايو 2012م الموافق 30 جمادى الآخرة 1433هـ

المجتمع المدني والتنمية... التجربة التونسية نموذجاً

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

ساد النظام الاجتماعي الإقطاعي والحكم السياسي المطلق باسم الحق الإلهي أوروبا خلال القرون الوسطى، ومع اندلاع الثورة الفرنسية والانجليزية انهارت هذه القوى تدريجيا حتى صارت البورجوازية الرأسمالية في القرن 18 قوة اجتماعية صاعدة برزت بالتوازي معها أفكار فلاسفة الأنوار حيث بزغ مفهوم المجتمع المدني بعيدا عن عالم القداسة الكنسي.

ويعتبر مفهوم العقد الاجتماعي (روسو) المبدأ الأساسي في نشأة فكرة المجتمع المدني في أوروبا، لأن العقد الاجتماعي يلغي مفهوم الحكم الاستبدادي ويعطي دوراً لإرادة المجتمع بكل فئاته. لكن نهاية القرنين التاسع عشر والعشرين عرفا خفوتاً لهذا المفهوم لأسباب عديدة، دون أن نجحد جهود البعض في التنظير والتطبيق مثل دي توكفيل في القرن التاسع عشر، من خلال كتابه الشهير «الديمقراطية في أميركا»، حيث اعتبر أن الجمعيات هي إطار الفعل والمبادرة، بل هي مصدر التقدم ومؤشر النهضة. وكذلك المفكر الإيطالي غرامشي الذي ساهم بتعريفات مهمة للمجتمع المدني بما «هو فضاء مستقلّ عن المجتمع السياسي، أي الدولة وأجهزتها».

وبرز من جديد مفهوم المجتمع المدني في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، حتى كاد يصبح حسب البعض «البديل الشرعي للدولة غير الديمقراطية». وقد كان له الأثر الكبير في أوروبا مثل حركة المجتمع المدني في بولونيا. كما هضم الفكر العربي مفهوم المجتمع المدني، لكن اختلفت الرؤى نحوه، فمنهم من يمزج فيه بين الجمعيات والنقابات والأحزاب السياسية وخصوصاً المعارضة، ومنهم من يستثني الأحزاب السياسية ويشدد على دور الجمعيات الطوعية في الانتقال والتحول الاجتماعي.

وقد تبنت الأمم المتحدة مقاربة تشاركية بين الدولة والمجتمع المدني أساسها التعاون، ونادت في إطار حرصها على التنمية المستدامة بمزيد من مشاركة الفاعلين الاجتماعيين، لأن التنمية من وجهة نظر الفكر الإنمائي لم تعد من مسئوليات الدولة وحدها، بل أضحت مسئولية المجتمع بأسره عبر المؤسسات المدنية. ولتحقيق ذلك لابدّ من اعتراف الدولة بدور المجتمع المدني والأخذ باقتراحاته والإقرار باستقلاليته وحقه في محاسبة الدولة في إطار الشفافية.

لذا فإن المجتمع المدني هو مجتمع المبادرة والمواطنة والمساواة. والجمعيات المدنية المستقلة تلعب دور الوسيط بين الدولة والفرد في إطار دورها الجوهري، وهو المساهمة في جهود التنمية ليكتمل الثالوث الإنمائي: ديمقراطية، مشاركة، تنمية.

والمجتمع المدني في تونس نموذجٌ يستحق الدراسة وخصوصاً التحوّل الذي طرأ عليه بعد الثورة، حيث لم تعدم تونس المجتمع المدني منذ الاستقلال على الأقل، لكن ساءت صورته خصوصاً في السنوات الأخيرة لحكم الرئيس المخلوع بن علي، فكثيراً ما تبجح النظام السياسي ما قبل الثورة في تونس بعدد الجمعيات، وطالما تغنّت أبواق السلطة آنذاك بارتفاع عددها من 2000 جمعية مثلاً سنة 1988 إلى ما يناهز 9000 جمعية سنة 2009.

غير أن العبرة ليست في الكم وإنما في النوع والكيف، حيث إن المشهد كان يبدو برّاقاً من الخارج مع كل هذا الكم من الجمعيات والمنظمات الأهلية، وكأن آراء المجتمع التونسي ممثلة على تنوعها، إلا أنه في الحقيقة وعلى غرار باقي الحريات في عهد نظام بن علي، لم تكن سوى واجهة للاستهلاك الخارجي، وهو ما يؤكده مالك بكلوتي، المحامي الذي يعمل مع مركز النساء العربيات للتدريب والأبحاث التابع للأمم المتحدة، حيث قال: «مع الأسف كانت أغلب تلك المنظمات خاضعة لرقابة النظام، ولا يمكننا الحديث عن ثقافة العمل الجماعي أو روح مدنية متطورة». بل إن العديد من تلك الجمعيات هي اليوم تحت طائلة المحاسبة في إطار العدالة الانتقالية بعد توجيه تهم بالفساد المالي والإداري للقائمين عليها آنذاك.

أما بعد نجاح ثورة 14 يناير وسقوط نظام الفساد والاستبداد، كان أمام المواطنين خياران: إما العودة إلى حياتهم الطبيعية باستئناف دراستهم وأعمالهم، أو الانخراط في تنظيمات، والعمل على تشكيل أنفسهم ضمن الجمعيات، وفيما اختار العديد من الناس التوجه الأول، فضّل البعض الآخر مواصلة مسيرة النضال من خلال المجتمع المدني والدفع بالتغيير إلى منتهاه. وفي هذا الإطار تقول فيليبا نيف التي تعمل مع منظمات المجتمع المدني التونسي من خلال البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة: «رغم التباين أحياناً في توجهات المنظمات الأهلية، فإن ذلك أمر عادي، فقد رأينا انبثاق أعداد كبيرة جداً من الجمعيات في فترة وجيزة».

بل وتشيد المفوضة السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة نافي بيلاي بالديمقراطية الناشئة في تونس، والتي فتحت الباب للمجتمع المدني كي يعمل بكل ما أوتي له من قدرة، وسمحت بوجود مكتب للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في البلاد للمرة الأولى في تاريخها، بينما رفضت دول أخرى ذلك رغم الثورات والحراك المجتمعي فيها.

إن العالم اليوم يتصف بتنامي آليات التدخل لحماية حقوق الإنسان والمجتمع المدني ومن أبرزها الدور الذي تلعبه الأمم المتحدة في هذا المجال، وهذا ما يساعد على مزيد إذكاء لدور المجتمع المدني في إطار أمميّ. غير أن الخشية كلَّ الخشية عند البعض أن يتحوّل هذا الغطاء الحقوقي إلى سلاح ايديولوجي تضرب به سيادة الدول أو تداس فيه الخصوصية الثقافية لكل مجتمع أو شعب. ورغم هذه الهواجس تبقى منظمات المجتمع المدني هي الحارس والضامن الوحيد لسيادة الدولة وخصوصية المجتمع.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 3545 - الإثنين 21 مايو 2012م الموافق 30 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 1:46 م

      شكرا لك

      مهما كانت المشاغل فلن تحرمنا شرف قراءة ما تتفضلون به واصل يا أستاذ

    • زائر 7 | 10:46 ص

      المجتمع المدني والتنمية.

      كما قد يكون عامل تنمية يمكن أن يكون عامل تراجع إن لم ينهض المثقفون فيه بالدور الريادي
      فالجمعيات يمكن أن تنشئها قوى سلفية أو قوى يسارية دغمائية فما الحل آنذاك

    • زائر 6 | 8:50 ص

      مقل جيد

      شكرا مقال فيه بحث ويثير قضايا مهمة

    • زائر 5 | 7:21 ص

      أي دور للأمم المتحدة؟؟؟؟؟؟؟؟

      العالم اليوم يتصف بتنامي آليات التدخل لحماية حقوق الإنسان والمجتمع المدني ومن أبرزها الدور الذي تلعبه الأمم المتحدة في هذا المجال،

      على هذه المنظمة مراجعة حساباتها في الدول العربية والإسلامية

    • زائر 4 | 3:30 ص

      للأسف

      وتشيد المفوضة السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة نافي بيلاي بالديمقراطية الناشئة في تونس، والتي فتحت الباب للمجتمع المدني كي يعمل بكل ما أوتي له من قدرة، وسمحت بوجود مكتب للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في البلاد للمرة الأولى في تاريخها، بينما رفضت دول أخرى ذلك رغم الثورات والحراك المجتمعي فيها.


      نعم أظن في مصر لم يسمحوا بذلك

    • زائر 3 | 2:53 ص

      الله يستر من الأمم المتحدة!!!!!!!!!!!!!!

      وقد تبنت الأمم المتحدة مقاربة تشاركية بين الدولة والمجتمع المدني أساسها التعاون، ونادت في إطار حرصها على التنمية المستدامة بمزيد من مشاركة الفاعلين الاجتماعيين،

      فعلا سياسة الكيل بمكيالين : إسرائيل + أي دولة عربية؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

    • زائر 2 | 12:36 ص

      تسلم ويسلم قلمك

      وسلم الله كل الدول العربيه
      جمال الشريف

    • زائر 1 | 11:49 م

      شكرا على المقال

      جميل هذا التنويع في مواضيعك
      لكن أرجو أن تكون الجمعيات في المجتمع المدني مستقلة ولا تنحدر إلى ما انحدرت إليه جمعيات أخرى سابقا.

اقرأ ايضاً