العدد 1408 - الجمعة 14 يوليو 2006م الموافق 17 جمادى الآخرة 1427هـ

غمرتني العزلة حد الفقد

بعد 30 عاماً من «النهر»...«الشعر»... اللحدان لـ «ريضان»:

شاعر بحجم وقامة خليفة اللحدان، أكثر شاعر بحريني - إن لم يكن خليجياً - يملك طاقة استثنائية في الحديث عن العزلة، باعتباره إما أحد الذاهبين إليها، أو أحد الذين داهمتهم ذات ليل... ليل لا يشبه أي ليل. ليل خيارات وأوطان ومواقف.

هو اللقاء الأول الذي تجريه صحيفة محلية مع اللحدان الذي بدأ الكتابة منذ العام 1976، أي 30 عاماً. وإزاء تلك الحقيقة، لا يملك الحر منا إلا أن يسأل: ما الذي يدفع ساحة تدّعي الطهر والوعد بالخلاص، إلى اقتراف مثل تلك الجريرة في جانبها الأسود والمؤذي؟ هذا التهميش... الإقصاء... محاولة جر الكبار أو دفعهم إلى غيابة النسيان، والذي هو أصعب من غيابة الجب، لا يمكن له إلا أن يقول شيئاً أو أمراً واحداً: كي يكون مرضيا عنكم، عليكم أن تلتمسوا مصدر الرضا: أن تلتمسونا. منطق كذاك لا يستقيم مع الذين يسعون في الحياة بقامات إضافية، مع الذين لهم جباه وأنوف تكاد تحك السماء. اللحدان تحدث بلغة شعرية حادة وجارحة أحياناً، جارحة من حيث التفاصيل المؤدية إليها، وإن بدت متلبسة غيم الغموض. هنا كان الحوار:

لنقف بداية على الخروج في وجه حوارات لا تخلو من سذاجة. ما الذي أضافته العزلة إلى إقامتك؟

- لا تدهشني البدايات عادة... ولكن أجد نفسي في حال من الدهشة العارمة في هذا الدخول المفاجئ... وأنا في حيرة من أمر الخروج... ثمه أسئلة ليست كالأسئلة بل هي شظايا ملتهبة من الصمت المريع... كالرمية التي لا تحيد عن جهة القلب أبداً... لا تترك فرصة للهروب أو الرجوع...أسئلة فادحة فداحة الصمت عنها.

لم تترك العزلة شائبة مني إلا غمرتها حتى الفقد... وعلى رغم امتداد السواد فهناك في آخر النفق ضوء بعيد أحسه يغمرني... يغسلني بضياء غامض... وحين تشتد العزلة بي... أجد الحرف رفيقي الذي لا يخون... والإزميل نديمي... والريشة ملاذي الآمن... كان المتنبي يخرج لي من بين السطور... وابن مقلة بين ثنايا الحروف... وابن زيدون يشكو لي غدر الزمان وفقد الأحبة. كانت عزلة المكان تحيط بي ولكن روحي لم تكن معزولة.

ثمة عزلة اختيارية وأخرى مفروضة... ولكن يمكنك من خلال موقفك أن تتعامل مع المفروضة منها على أنها اختيارية، أليس كذلك؟

- هكذا يستمر صراع الأضداد في داخلي... العتمة... النور... الفرح... الحزن... الرضا... الرفض وهكذا. يشكل المفروض دافعاً قوياً لاشتعال العزلة... أشعر بحال من الاستفزاز والتحدي والحزن في الوقت نفسه... ولا أنجو من الإحباط كثيراً... ولكنني بعد كل هذا أخرج بخبرة ليست بالقليلة للتجاسر على ما أنا فيه... ويكون النص في حال التحام تام مع نفسي بكل تداعياتها وانكساراتها... يتدفق النص كالنزف الذي لا أستطيع إيقافه مهما حاولت.

أنا في كل انكساراتي

فـ مداراتي

في ذاتي

إن كَلْ العاقول قلبي

واستبد فيني وهام

يمّه مدّي لي

على ربوة صبا

راحة ايدينك بنام

أنا ضيّعني الكلام

أنا شرّدني الكلام

كنت ضمن الذين دفعوا ضريبة الموقف سنوات في مكان معزول. لا أطالبك باختصار سنوات العزلة... بل أسأل عن تعاملك وارتباطك بإيقاع الزمن/ الوقت.

- كأنك تفتح الجروح التي لا تنتهي ولا تجف وإن جفت فإلى حين، للزمن إيقاع لا يمكن الخروج منه إلاّ للفناء... وقد تكون في الفناء المؤقت تطول بك الثواني... وتستبد بك الدقائق والساعات فكيف بالسنوات، لذلك توقفت بي ساعة الجدار، وانتصبت بداخلي ساعة الانتظار المرير... في كثير من الأحيان تكون العزلة دافعاً قوياً للتميز وحافزاً للإبداع، فكان للشعر صولته... الشعر لا يقرر، بل يومض ويشير، الشعر كالبرق يتلألأ سريعاً ثم يختفي ولكنه يضيء العوالم والطرق والبصيرة. وما أقساه من إيقاع، إذ إنك تدفع زهرة عمرك ثمناً لحبك، ذلك هو الغبن.

ثمة تفاصيل جارحة ومؤلمة في تلك العزلة... وسآتي على جوانب منها ترتبط بالنص/ القصيدة... سؤالي: ثمة رائحة ما تظل تستفز فيك حق معانقتها... التمرد على مكان... طبخ أمك... قريب لك... رائحة مكان شكّل وعيك... رائحة مركز صحي... أدوية... ربما روائح عطنة... رائحة عرق... خوف... رائحة أمل... حدّثني عن كل ذلك.

- حديثي مع نفسي لا ينقطع، منذ الصغر وأنا أصغي للكائنات من حولي، في ذلك المكان البعيد المؤلم والجارح والمعزول في الوقت نفسه، كنت أكثر إصغاءً ونقاءً لذلك الحديث الذي لا ينتهي أهمس لها وتهمس لي لا يوجد بيننا حجاب، أتعلم وأكتشف منها الكثير الكثير من تجاربي في الحياة، في العزلة كنت أكثر التصاقاً بطبيعتي الإنسانية، في العزلة يظهر الإنسان الحقيقي بداخلي من دون أقنعة، تظهر النفس معدنها الحقيقي بعيداً عن كل الأبجديات المفروضة والمنصوص عليها، فالإنسان هو الإنسان في كل مكان.

في العزلة المفروضة تكون كل حواسي مستفزة حتى انني أشم رائحة الدخان في «سيرة الجوع الصمت»، وصهد التحدي في «الفراشة» المصرّة على معانقة النور حتى لو كان فيه هلاكها... هذه الفراشة التي لا تستقر على شيء أبداً إلاّ بين الأيدي والأعين.

اللون هو الآخر له مستويات وعيه في مكان كنت شاهداً على تفاصيله، ثمة جدران وجدران. هل مثـّـل لك اللون في أمكنة كتلك تعويضاً آخر، تماماً كما هو الحال مع المصاب بالعمى؟

- في العزلة لا يصاب الإنسان بعمى الألوان، لا توجد منطقة وسطى بين السواد... البياض، بين الليل والضياء، كان طيف أمي لا يفارقني، يختزن كل الألوان، يغسل الأكوان في عيوني «كل شي ممكن يخونك إلاّ أمك ما تخونك»، حكمة تعلمتها من ذلك اللحن الشارد في ليل الشجن إلى حد البكاء، كان اللون رفيق عزلتي، وملاذي الذي تغتسل فيه روحي من ألم المكان والزمان والانتظار الطويل. كان اللون ولايزال يجلل نفسي بالسكينة.

لقد حاولت بريشتي الراعشة تسجيل الأماكن التي سكنت روحي قبل عيني، وفي يوم ما سيكون لها شأن ما. أتذكر ذلك الملتقى الثنائي عند ذلك «البيت» القديم، وذلك اللقاء اليومي الثلاثي الحميم في تلك الحديقة المسيّجة بالمحبة والنقاء، أو ذلك اليوم الذي أخذنا فيه ذلك اللحن الحزين ليطوف بنا في معالم ذاك المكان القاسي الأليم، وكم عشقنا ذلك المكان الذي لا ينسى، ومن الغريب أن يعشق الطائر الحر قفصه هذا العشق العميق، لا أدري كيف!

عودة إلى العزلة وارتباطها بالنص، وأصعب أنواعها أن تكون محجوراً عليك. كيف تحايلت على ذلك المكان؟ هل خذلتك الذاكرة؟ هل انتصرت عليها... على المكان؟... الوقت... نص الإدانة؟

- لا أمارس طقوساً خاصة في كسر العزلة، ولكنني دائماً أشعر بحزن غامض يسكن روحي... يثقل داخلي، كنت أشعر بالخوف أن شيئاً سيحدث لي لا أعرف ما هو، لذلك أكون متوجساً قلقاً أفضل العزلة عندها يفاجئني النص/ القصيدة... الأخيلة.... الصور... أحاول بكل ما أستطيع أن أمسك بكل الخيوط حتى لا تفر مني، لا أميل إلى هندسة القصيدة، فهي قد تهندست داخل روحي قبل الخروج إلى الفضاء العام.

هل صدمت بأخلاقيات المراهنة على فضاء من خلال الوشاية، هل تعرّضت للوشاية؟ هل اكتسب الواشي فضاءً ما على حسابك؟

- كثيراً ومازلت أصدم حتى هذه اللحظة، الوشاية نبت شيطاني مقيت يخنق فضاء العصافير ويقتل أحلام الزهر، كنت أمشي حافياً على جمر الوشاية، وكان وجه البسوس العبوس يوقد نار الحقد والحرب الضروس، ويفتح فضاءً معتماً من الغدر والخيانة. أي مكسب سيحققه الإنسان عندما يخسر نفسه!

تجربة بتلك الخبرة القاسية لاشك أنها منحتك حواساً إضافية، أليس كذلك؟

- التجربة المرّة لا ينطفئ مذاقها في النفس أبداً، تترك آثارها وشماً عميقاً وألماً جارحاً في القلب، أحاول بكل ما أستطيع أن أوقف الذاكرة أن تستدعيه، ولكن هيهات لي ذلك فعند أول شجن تتداعى الذكريات الأليمة والتجارب المرّة لدرجة أنني أحس بقلبي سيخرج من صدري كالعصفور المذعور، عندها ينهمر النزيف المريع من الحزن والأسى والشجن.

وانا في البير استجير

انقذوني

روحي نضّاها العطش

والنفس عذّبها المصير

تتطاول جدران الصمت المخيف... تتسيّد العزلة والذاكرة مشرعة على كل الاحتمالات، وروحي كالطريدة التي أتعبها القناص حتى الثمالة ولكنها لا تستسلم أبداً.

عرجنا على الرائحة واللون. ماذا عن الأصوات؟ ما أعرفه أنك كنت في حيّز يحيط به البحر وليس بالضرورة أن يصلك صوته، هل تمثلت ذلك؟

- لا أعلم ما هو هذا السر الدفين الذي يكتنزه هذا البحر العميق، فعندما تثور نفسي لا أجد ملاذاً غير البحر، أقذف فيه كل همومي أحزاني، بعدها أخرج مغتسلاً بالرضا الضياء، كنت أعانقه صباح مساء... كان يأخذني بعيداً كالصواري التي تختفي خلف الأفق، ولكنها لا تنحني أبداً. كان يقاسمني وجبة العشاء، يأخذ مني العمر ويعطيني الدفء وهذا الهدوء الغريب. البحر رفيق الأشقياء، وعروس البحر تجلس بكبرياء على صخرة الانتظار الطويل، كان البحر رفيق العمر الذي يجري هباءً، ولكنه يرسم في القلب نجمة للصباح.

عودة إلى ارتباط عزلتك بالنص وباعتبار أن العزلة نفسها نص أضفى حالاً من الوعي والنضج المبكّر، وربما حرق المراحل... هل حدث لك ذلك؟

- الغريب أن يكون أوّل أسباب عزلتي المفروضة نص تنفسته يوماً ما، والأغرب أن تكون للنص هذه القدرة في كسر جدران العزلة... في البدء كانت العوالم تهتز أمامي... تتداعى... تسقط... تتهشم الرموز، المبادئ، القيم على صخرة الواقع المر الذي لا يرحم... يمتد السراب الذي حسبته في لحظة من عمري حقيقة ساطعة... كانت التجارب اليومية المرّة تنضجني وأنا لا أدري، إلاّ أنني كالطائر الجريح الذي لا يغفل عن جرحه.

العزلة باعتبارها نصاً، هل يمكنك تلخيصها في بضع كلمات، ولست مضطراً إلى ذلك.

ـ لا أستطيع ذلك والعز................................لة تسكنني.

يحضر في الذاكرة... شاعران شعبيان في هذا الموضوع الشائك... علي عبدالله خليفة في بعض نصوصه، واللحدان، هل ثمة قاسم مشترك على الأقل في الجرأة على الانحياز إلى الإنسان؟

- كم هو مثير ومدهش حين يأخذك هذا الطائر الجسور بين جناحيه لكي يعلمك الطيران، من لي بهذا الغ

العدد 1408 - الجمعة 14 يوليو 2006م الموافق 17 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً