العدد 1408 - الجمعة 14 يوليو 2006م الموافق 17 جمادى الآخرة 1427هـ

كتابة في العزلة

يعتقد البعض أن العزلة هي نزوة عابرة تمر في حياة الشاعر وقد يعيبها البعض فيه، بينما في الواقع هي تجربة ضرورية يجب أن تمر في حياة كل شاعر ليكتشف فيها شاعريته بنقائها وصفائها وعمقها. شخصيّاً كنت دائماً ما أحس بوجود شاعر في داخلي قبل أن أكتب شعراً، لكنني أتيه ساعة أريد اكتشافه لأنني كنت أعتقد أن الطريق الى ذلك هو الاحتكاك بالخارج الى حين اكتشفت أنني اذا ما أردت أن اكتشف الشاعر داخلي علي أن أتقرب من الداخل لا الخارج، وان طريق التقرب للداخل هو الابتعاد عن الخارج، فكانت تجربة العزلة وروحية التأمل وذوقيته واكتشاف الذات الشعرية في داخلي بشفافيتها وصدقها ووضوحها التام ومحاورتها، بعيداً عن الرقابة وبعيداً عن استنساخ الآخرين بحسنهم وقبحهم. فالجو الهادئ الذي يخيم علينا ساعة عزلتنا وحواراتنا مع ذواتنا يهبنا ما نعجز عن الحصول عليه مع ضجيج الاتصال بالخارج. واكتشاف الداخل هو الطريق الأصح لمعرفة كيفية اكتشاف الخارج والتواصل معه. والعزلة تعطينا حرية تامة بعيدة كل البعد عن تأثير كل السلطات الخارجية علينا، فنكتشف شاعريتنا وأدبياتنا ونكرسها كما نحن نريد لا كما يريد غيرنا. وإذ كنا في السطور الأولى نرى بضرورة العزلة فإن في السطور الآتية نحذر من الإفراط فيها أو الاكتفاء بها. فالعزلة ضرورية نعم. ولكن للاكتشاف، أما الاستمرار فيتطلب الخروج من العزلة والانخراط في المجتمع بكل فصوله مما يتناسب وميولنا الأدبي. فمن العزلة نأخذ المثالية ومن المجتمع نأخذ الواقعية. فالعزلة والاجتماعية تجربتان يجب أن يمر بهما الشاعر وفقدان احدى التجربتين يفقدنا الكثير من الحلقات في مستوى نصوصنا. وأجزم أن الكثير من الشعراء عندنا لم يمروا بتجربة العزلة فمارسوا الشعر قبل أن يكتشفوه في داخلهم ولهذا تأتي نصوصهم كالجسد الذي لا روح فيه، فنجد انعدام الصورة وتسلسلها وكذلك الفراغ الذي يتخلل قصائدهم على رغم كثرة الحروف، فيكون معنى كل القصيدة في بضع كلمات والباقي إما لسد ثغرات الوزن أو لترقيع القوافي!

إن مصدر الشعر الأساسي هو النفس البشرية لا المجتمع ولا الحبيبة ولا الزهور ولا العصافير أو غير ذلك مما يلهمنا الكتابة. وعلى هذا الأساس ينبغي علينا اكتشاف الشعر أولاً في هذه النفس ومن ثم الخروج لكل تلك المغريات والملهمات، ويصعب ذلك من دون المرور بمرحلة العزلة، فالشاعر يستبطن نفسه البشرية ليتقمص في شعره بعد ذلك وجدان العالم

العدد 1408 - الجمعة 14 يوليو 2006م الموافق 17 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً