العدد 1418 - الإثنين 24 يوليو 2006م الموافق 27 جمادى الآخرة 1427هـ

ملاحظات هادئة على موضوع غاضب

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

كيف يمكن مقاربة الصور الثلاث، الأولى هي لطفلتين إسرائيليتين من منطقة كريات شمونا يكتبان على رؤوس متفجرة قبيل شحنها في الدبابة ما يلي: أعزائي اللبنانيين، الفلسطينيين، العرب، المسلمين، المسيحيين، الأطفال: موتوا... مع حبي... هذه الصورة التي تناقلتها رسائل الإنترنت، كيف يمكن مقابلتها مع صورة أخرى، ظهرت بعد مقتل الزرقاوي، إذ نقل عن زوجة السفير المصري المقتول في بغداد منذ أشهر، أنها وزعت بين جيرانها (شربات) كناية عن الفرحة، فأعاد لها البعض ما أرسلت، لأنهم يؤمنون بأن الزرقاوي قد مات شهيدا نيابة عن «الأمة»! مع صورة ثالثة وزعت على الإنترنت تقول في سفر يشوع يقال لهم أحرقوا كل ما في المدينة!

خط التعصب الأعمى هو العمود الفقري للصور الثلاث وهي واضحة لا جدال فيها، وهو تعصب حقيقي وملموس، تدفع الشعوب له ثمنا بالدم. إلا أن السؤال الناتج عن تلك الصور ترى عن أي «آخر» يتحدث المختلفون؟ أنه آخر مرسوم في الأذهان متوحش ودموي.

قبل سنوات وفي مكتب رئيس تحرير إحدى الصحف اللبنانية المعروفة دار الحوار حول رؤية حزب الله للصراع مع «إسرائيل»، وقتها انتهى النقاش بقول الصديق: أنا من الجنوب اللبناني، وأنا مع حزب الله في مشروعه السياسي، وضد حزب الله في مشروعه الاجتماعي. قد يبدو للوهلة الأولى أن ذلك النقاش لم يكن ذا فائدة، ولكنه اليوم أصبح ذا معنى، فالسؤال الملح في لبنان، ليس اليوم فقط، ولكن في الأيام والأسابيع المقبلة، وربما الشهور، هو ما حدود الحزب مع الدولة، وما حدود الدولة مع الحزب؟ أي أن هناك «موافقة» و«ممانعة» لبعض مشروعات الحزب، خصوصاً أنه ليس حزباً سياسياً فقط، بل هو حزب ذو قوة ضاربة لا تملك حتى ما يماثلها الدولة اللبنانية؟ حزب له رجل في السلطة (الوزارة) ورجل في المقاومة، يؤسس هذا الواقع بصعوبة على أي ظهر ستنام الدولة اللبنانية القادمة؟

هناك بعض الأمور التي تبدو للمراقب أنها شبه يقينية، وقد يضاف أنها تبدو كذلك للمراقب الحذر والعقلاني معاً منها:

أن الإسرائيليين لا يستطيعون أن يحققوا نصرا (بمعنى خلع حزب الله من قاعدته) عن طريق قوة النار المحلقة أو البحرية، مهما كانت هذه القوة عاتية ومتفوقة، هم يستطيعون أن (يدكوا) لبنان عن بكرة أبيه، كما يقال لدى العامة، كما أن «إسرائيل» تستطيع أن تعيد لبنان إلى قرن مضى، ولكنها لا تستطيع أن تحقق نصراً حربياً خالياً من الشوائب بالقوة المجردة، إذا كان هذا النصر هو محو حزب الله من المعادلة أو حتى عزله! كما أنها لا تستطيع (إلا بثمن فادح) الاشتباك البري في الجنوب اللبناني، أمام مجموعة من البشر قررت أن تستشهد. من جهة أخرى فان صواريخ حزب الله (على كثرة تصويبها) يبدو أنها تخطئ الأهداف، حتى لا نقول إن أكثرها عشوائي، ربما يرجع ذلك، أما إلى نقص تقني أو نقص تدريبي، أو ربما الاثنان معا. هي حتى الساعة تخيف التجمعات الإسرائيلية، ولا تصيبها بعطب، وأرقام القتلى من الجانب الإسرائيلي، حتى الآن، خير دليل على ذلك.

كما أن المراهنة على (حرب أهلية لبنانية) أو حتى انشطار أهلي كبير يقوي من موقف «إسرائيل» ويضعف الأطراف المعادية لها، لم يتبلور، ولا يظهر انه سيتبلور خارج المواقف السياسية، إلا بعد أن تسكت المدافع لا قبل ذلك.

لقد تبين من أحداث الثمانينات في لبنان أن لا أحد يستطيع أن «يجر» الشعب اللبناني إلى سلام كما يريده مع «إسرائيل»، لقد كان دون ذلك عقبات كأداء يعرفها التاريخ اللبناني المعاصر. وبالمثل فان الحوادث الحالية ستثبت للطرف الآخر، أن أحدا من الفرقاء لا يستطيع أن «يجر» لبنان إلى حرب أيضاً. القناعة أن الحرب والسلام شأن الدولة، وليس شأن فريق من الفرقاء مهما عظم شأن هذا الفريق أو ذاك.

الطرف أو الأطراف الخارجية موجودة لا يجوز لعاقل أن ينكرها، هناك أطراف عربية تدفع بطريق تقوية «الممانعة» بالمقاومة، قد يكون ذلك نصرة للمقاومة، وقد يكون أملا في فتح هوة ولو صغيرة في الطريق السياسي المسدود، وهو طريق اللا سلم واللا حرب، الذي وجد ذلك الفريق العربي نفسه فيه. وفريق عربي آخر يرغب بأن يرى لبنان وطنا لا ساحة، شعبا لا منصة صواريخ، ولكنه بالمقابل عاجز عن الفعل الايجابي.

كلما طالت مدة الاشتباكات صرف أكثر من رأس مال حزب الله، وهذا الرأس مال ليس عدداً من الصواريخ والأسلحة الحربية الثقيلة فقط، ولكنه أيضاً «تعاطف ومؤازرة» من الداخل اللبناني وهو الأهم. أما الخارج العربي وربما الرأي العام الدولي (غير الرسمي) فإن المؤازرة تتضاعف وتشتد، إلا أنها أيضاً (من دون أسنان) مؤثرة. عربيا خبرناها كثيراً وملياً، شاهدناها ابان الكذبة الكبيرة في أن «أسوار بغداد ستقف سدا منيعا أمام التتار الجدد»! وخبرناها في السودان ونختبرها حالياً في فلسطين وغيرها من المناطق العربية، رفع الصوت العالي التي اعتمدها كثيرون من أصحاب الحناجر العالية والعقول التي لا تميز، لا تقدم الكثير للناس على الأرض عدا التنفيس.

المعادلة الصفرية التي أمامنا مكونة من جانبين، الأول أن معظم الدول الكبرى والدول المؤثرة ترى في حزب الله ليس قوة مقاومة، بل «منظمة إرهابية» كما تقرر «إسرائيل»، وعلى خلفية ما حدث بعد 11 سبتمبر/ أيلول، وسقوط دولة طلبان في أفغانستان وأعمال القاعدة الشؤمة على مستوى العالم وسقوط بغداد، فان حربا عالمية غير معلنة ضد «الإرهاب»، أسقطت الوضع اللبناني في المراوحة، من بينها المراوحة التي حدثت لحزب الله، بين «قوة مقاومة» كما كان يعتقد الفرنسيون حتى قريب ويأملون أيضاً مع غيرهم، أن ينضوي حزب الله تحت مظلة أكبر هي العمل السياسي من خلال الدولة اللبنانية، مع استمرار للروح المقاومة واستمرار المطالب اللبنانية العادلة، إلا أن تلك المراهنة لم تنجح. وبين (وهو الشق الآخر من المعادلة) قوة حزب الله العسكرية، التي يبدو أن لا تأثير عليها من أحد (خارج حلفاء محدودين جداً) من مصلحتهم العليا (ومصلحة دولهم) تأجيج الساحة لتحقيق أهداف تكتيكية أو استراتيجية أمام (القوى المستكبرة). طبعا وقود هذه المعادلة الصفرية هو الشعب اللبناني إنساناً وحجراً.

واضح أن المخرج من هذه المعادلة الصفرية هو مخرج سياسي وليس عسكريا، وكلما طال الصراع العسكري، صعب المخرج السياسي وتعقد، وخسر الجانب العربي.

مخطئة الولايات المتحدة إن اعتقدت أن إطالة الصراع يؤدي إلى تطويع مناصري حزب الله، وهو خطأ استراتيجي ضخم لا يصب حتى في مصلحة (الأصدقاء المحتملين في لبنان)، فالإطالة تعني تدميرا أكبر وأفضح، وأيضاً هذا الموقف يقوي من الشعور «الوطني اللبناني» الذي لا يجب تجاهله، فالفوضى الخلاقة تصبح «خلاقة» ربما إن هي قننت، وتصبح «متلافة» إن فقدت حس التوقيت الملائم. المعركة تدور أيضاً عن «كرامات» بعض القوى، ومن المهم أن تخرج كل كرامة بعد هذا الصراع كونها «انتصرت» أمام جمهورها، ولو انتصاراً محدوداً.

صراع الشرق الأوسط، على رغم تشعبه وطوله، هو صراع في جزء منه على «كرامات». وعودة لصورة الأطفال الإسرائيليين وهم يخطون على القذائف تلك الشعارات المخيفة، وهي الصورة نفسها التي تؤكد دورة العنف الطويلة والمريرة التي عانتها شعوب هذه المنطقة المنكوبة، إذ يبدو فيها أن الكرامات أهم من الأرواح بكثير

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1418 - الإثنين 24 يوليو 2006م الموافق 27 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً