العدد 1418 - الإثنين 24 يوليو 2006م الموافق 27 جمادى الآخرة 1427هـ

لبنان والاحتمالات الأربعة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

دخلت الحرب الأميركية - الصهيونية على لبنان يومها الرابع عشر وحتى الآن تبدو الأمور تراوح مكانها. «إسرائيل» من جانبها لم تقل كلمتها الأخيرة في هذه المسألة ولاتزال تناور وتماطل لكسب الوقت مستفيدة من الدعم الدولي والذريعة التي اتخذتها واسطة سياسية لتدمير لبنان دولة ومقاومة. والمقاومة من جانبها تراهن على الحرب الطويلة لأنها ترى أن الوقت لا يلعب لمصلحة العدو الصهيوني وخصوصاً أن الأخير فشل حتى الآن في وقف إطلاق الصواريخ على مستوطناته ومستعمراته ولم ينجح في تحقيق اختراقات جدية على الأرض.

في جو هذا التوازن القلق وصلت وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس إلى المنطقة حاملة معها مجموعة أفكار غير واضحة وبحاجة كما يبدو إلى «غربلة» وبحث ودراسة قبل التوصل إلى صوغها في مشروع قرار دولي يتوقع صدوره عن مجلس الأمن.

هناك الكثير من الأفكار التي طرحت في الأسبوعين الماضيين منها جاءت من أوروبا، ومنها نقلتها إلى واشنطن وباريس مجموعة وفود عربية، ومنها تسربت في صيغة تصريحات من عواصم دولية وعربية.

الأفكار المتداولة متعارضة في جوهرها وهي تذهب في اتجاهات من الصعب توحيدها في فقرات متماسكة في حال استمر «التوازن السلبي» يشكل سقف المواجهة الدائرة على الأرض في جنوب لبنان. فالصراع على الأرض (الميدان) يقرر إلى حد كبير حدود الحل الدبلوماسي. ومادامت المقاومة قادرة على توجيه صليات صاروخية يومياً على المدن والمستعمرات والمستوطنات ومادامت المقاومة صامدة في الجنوب تواجه الاختراقات الصهيونية بضربات موجعة أو باختراقات مضادة... فمعنى ذلك أن العدوان سيصل في النهاية إلى نقطة يتوقف عندها لتبدأ الحرب تأخذ مجراها السياسي.

الميدان إذاً هو القوة الفصل في ترسيم حدود الحل الدبلوماسي، وبانتظار أن تتوضح صورة المواقع الحربية يمكن الاستنتاج سياسياً أن المعارك ستتواصل إلى فترة معينة ليصبح بالإمكان إطلاق مشروع مبادرة دولية لاحتواء تداعيات المواجهة والحد من احتمال تدحرجها إلى حرب مفتوحة إقليمياً.

مواقف متغايرة

حتى الآن كيف يمكن رسم الشكل السياسي للمواجهة؟ الولايات المتحدة تعتبر أن الحرب التي أعلنتها هي ضد إيران وسورية وان حزب الله هو جزء من ذاك المحور الثنائي كما هي حركة حماس في قطاع غزة. فواشنطن ترى أن «إسرائيل» تقوم بشن هجوم نيابة عنها وبتكليف منها لتحقيق نجاح عسكري تريده إدارة «البيت الأبيض» قبل اقتراب موعد الانتخابات النصفية التشريعية (الكونغرس) في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

فرنسا بدورها تدعم حق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها، ولكنها ترفض سياسة الافراط في استخدام القوة وتهديد سلامة بلد صغير وجرجرته إلى حال من «الفوضى البناءة» كما هو حال العراق. وفي هذا المعنى تضغط باريس باتجاه وقف إطلاق النار والعمل على صوغ حل دبلوماسي ينهي تلك النقاط السياسية العالقة قبل أن تنهار الدولة ويتفكك الكيان اللبناني إلى إدارات محلية (كانتونات طائفية).

«إسرائيل» التي تقود الحملة الأميركية على لبنان نجحت حتى الآن في تحطيم الدولة وفشلت في تحطيم المقاومة. وفي حال استمر الوضع على ما هو عليه الآن نحو أسبوع (وهي مدة إضافية طلبتها من واشنطن) فمعنى ذلك أن الحرب العدوانية أسهمت في اضعاف منطق الدولة وتقوية منطق المقاومة. لذلك يلاحظ أن حكومة إيهود أولمرت تعمل على خطوط مختلفة المستويات تحاشياً للفضائح الميدانية. فهي مرة تقول إنها لا تريد اجتياح الجنوب وستكتفي بغارات جوية وعمليات كوماندوس (قوات خاصة) لضرب الجيوب والمواقع على غرار ما فعلته في قطاع غزة (عزل القطاع وتطويقه ومحاصرته وتنفيذ ضربات ضد البنى التحتية ومناطق مقاومة حماس). ومرة تقول إنها تريد اقتحام بعض المحاور وتشكيل شريط حدود بعمق كيلومتر أو أكثر لمنع حزب الله من إطلاق صواريخه على المستوطنات والمستعمرات. ومرة تقول إنها تريد تدويل الشريط الحدودي (قوات الحلف الأطلسي) أو توسيع مناطق التدويل في الجنوب بعمق يصل مداه إلى نهر الليطاني أو أبعد من ذلك.

المحور السعودي - المصري يعتبر الأكثر تضرراً من نتائج الحرب المفروضة على الدولة اللبنانية. فهذا المحور يرى أن الحرب موجهة ضده وأن واشنطن وجهت رسالة سياسية قوية للقاهرة والرياض من خلال تحطيم البنى التحتية لمدينة بيروت وتقويض مشروع انهاض الدولة اللبنانية. ولهذا السبب يمكن فهم الكثير من المواقف السياسية التي صدرت عن هذا المحور حين عقد اجتماع وزراء الخارجية العرب في مبنى الجامعة. كذلك يمكن قراءة بعض خيوط المواجهة السياسية الخفية بين واشنطن والمحور السعودي - المصري. فهذا المحور فهم الرسالة التي سددتها إليه الولايات المتحدة من خلال صواريخ وقنابل وغارات سلاح الجو الإسرائيلي. وعلى أساس هذه القراءة تحرك المحور الثنائي بقوة إلى عواصم أوروبا وواشنطن لوقف العدوان من خلال التوافق على وقف إطلاق النار والبدء في بحث مشروع حل دبلوماسي يأخذ في الاعتبار كل المشكلات السياسية العالقة على أن تلعب الدولة دور الأساس في التفاوض.

سورية في المقابل لم تتحرك ميدانياً، ولكنها أطلقت سلسلة إشارات ضوئية تتجه نحو طرقات متعاكسة. فهناك مواقف سورية حتى الآن. فهي مثلاً ضد العدوان الإسرائيلي على المقاومة، ولكنها لم تبادر إلى توضيح موقفها من العدوان على الدولة. وهي أيضاً ضد إطلاق الصواريخ على المستعمرات والمستوطنات بحسب ما جاء في تصريح سفيرها في لندن ثم عاد وعدله في اليوم الثاني. وهي أيضاً عرضت خدماتها على الولايات المتحدة (تصريح فيصل المقداد) وأبدت استعدادها للمساعدة في حل مشكلاتها في لبنان ومع المقاومة. وأيضاً أرسلت إشارة إلى احتمال تدخلها الميداني (العسكري) في حال تقدمت القوات الإسرائيلية براً ووصلت إلى الحدود اللبنانية - السورية. كذلك أرسلت رئيس الهيئة العليا اللبنانية - السورية نصري خوري إلى بيروت وأبلغ الحكومة أن دمشق وضعت موانئ ومطارات سورية بتصرف الدولة اللبنانية (ممرات بديلة) كذلك قال إن دمشق وافقت على إدخال قوافل المساعدات الإنسانية من دون فرض «ضرائب» عليها أو «رسوم جمركية».

هذه المواقف السورية التقطت واشنطن - تل أبيب إشاراتها المتعاكسة. فكل موقف يؤشر على جهة مخالفة للأخرى. ولكنها في مجموعها العام تلتقي على تقاطع طرقات يشير إلى استعداد سورية للعودة إلى لبنان في حال وافقت الولايات المتحدة على إعادة هذا الدور الإقليمي الذي تعرض للاهتزاز بعد اغتيال رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان.

صورة مشوشة

هذه الصورة غير دقيقة، ولكنها تعكس أجزاء الواقع العسكري المشوش على الأرض. وقبل أن تكتمل صورة الواقع الميداني يمكن رسم احتمالات متخيلة للنهايات المتوقعة.

الاحتمال الأول. إعادة إنتاج اتفاق 1976 الذي أعطى الجنوب اللبناني منطقة نفوذ لـ «إسرائيل» مقابل تكليف دمشق بمهمة ضبط السلاح الفلسطيني ومنع القوات المشتركة (اليسارية) من التمدد في المناطق. هذا الاحتمال يمكن توقعه مع تعديلات كثيرة تتناسب مع المتغيرات الدولية والإقليمية التي حصلت في العقود الثلاثة. والتعديلات يمكن أن تكون باتجاه تدويل منطقة الجنوب ونشر قوات الحلف الأطلسي (الناتو) للفصل بين لبنان و«إسرائيل» مقابل أن تعطى دمشق فرصة ثانية للدخول إلى منطقة البقاع فقط لضبط انفلات الوضع الأمني وترك ما تبقى من لبنان كمنطقة محايدة. والمنطقة المحايدة يعاد فيها تركيب مشروع دولة محدودة الإمكانات وضعيفة ومشلولة على غرار تلك التي أقامتها واشنطن في أفغانستان والعراق.

الاحتمال الثاني. ترك «إسرائيل» تمارس سياسة تقويض الدولة وبعثرة الكيان اللبناني أجزاء مناطقية (طائفية مذهبية) تدير شئونها حكومة مركزية تعطى صلاحيات الوزارات السيادية وتترك للمناطق صلاحيات لإدارة مختلف الشئون المحلية التي يحتاجها الناس في حياتهم ومعاشهم في إطار عام يلبي حاجات الولايات المتحدة ومشروعها التقويضي الذي يقوم على فلسفة «الفوضى البناءة».

الاحتمال الثالث. توزيع لبنان إلى ثنائية سياسية تعتمد على محورين: منطقة للمقاومة (البقاع والجنوب) بإشراف دولي - إقليمي، ومنطقة للدولة (الجبل والساحل) تعطى فيه فرصة للدولة لإعادة ترميم مشروعها بضمانة دولية وإقليمية (مصرية - سعودية) في سياق مستقل عن تداعيات المواجهة المحتملة إقليمياً. فالمواجهة قد تكون مستبعدة في حال توافقت القوى الدولية على حل سياسي شامل بما فيه الملف النووي الإيراني. ولكنها أيضاً غير مستبعدة في حال فشلت الأطراف المعنية في التوصل إلى صيغة حل شامل.

الاحتمال الرابع. إعادة لبنان ساحة مفتوحة لتوجيه الرسائل بين القوى الدولية والاقليمية. وهذا يعني ترك هذا البلد الصغير يتخبط في دائرة مواجهة ممتدة من غزة إلى طهران. وهذه الحال المدمرة عاشها لبنان منذ العام 1975 إلى العام 2000. ونجح في الخروج منها حين توافقت الأطراف على «اتفاق الطائف» وأعادت ترتيب أوراقها بالتفاهم على توزيع الوظائف بين مهمات الدولة وواجبات المقاومة. وانتهى الموضوع بأن الدولة انجزت تقريباً مشروعها والمقاومة انجزت تقريباً أهدافها وجاء العدوان الحالي ليقوض تلك المعادلة (الدولة والمقاومة) من خلال فتح الجبهات على احتمالات غير واضحة المعالم.

نحن الآن في اليوم الرابع عشر من حرب تقودها «إسرائيل» نيابة عن أميركا. وفي هذا اليوم وصلت رايس إلى بيروت لبحث مشروع حل دبلوماسي - سياسي ترسمه المعادلات الميدانية على الأرض.

وهذا المشروع مشوش حتى الآن ويتراوح بين احتمالات مختلفة منها إعادة إنتاج اتفاق 1976 ضمن صيغة معدلة ومدولة، ومنها تقويض الكيان اللبناني دولة ومقاومة، ومنها توزيعه إلى ثنائية مناطقية واحدة تخضع للمقاومة وأخرى للدولة، ومنها تركه ساحة مفتوحة لتبادل الرسائل، وبالتالي يتحول إلى دائرة معرضه لكل الاحتمالات العامة التي ستخرج بها الولايات المتحدة في إطار ما وصفته رايس «المخاض لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد»

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1418 - الإثنين 24 يوليو 2006م الموافق 27 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً