العدد 3567 - الثلثاء 12 يونيو 2012م الموافق 22 رجب 1433هـ

مع أمل دنقل

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

هناك من الشعراء من تنساهم قبل أن تطوي ديوانهم الشعري، وهناك من يبقون رفاقاً لك، مقيمين بين حناياك عشرين عاماً، تعود إليهم كلما شعرت بالحنين إلى الصدق والدفء في عالمٍ مليءٍ بالخيانة والكذب وباعة الضمائر الملوثة... ومن هؤلاء الشاعر الكبير أمل دنقل.

وُلد دنقل في صعيد مصر العام 1940، وتوفي العام 1983، ورغم صغر سنه إلا أنه ترك تراثاً شعريّاً غنيّاً. وقد تأثر بأبيه الذي كان عالماً أزهريّاً يقرض الشعر، ومات عنه وهو في العاشرة فترك ذلك شعوراً دائماً بالحزن لديه. وإلى جانب الحزن أورثه مكتبةً تضم كتباً في الفقه واللغة والتفسير والتراث العربي الأصيل، ما أسهم في تكوينه الثقافي، وانعكس على مفرداته وقاموسه الشعري.

انتقل دنقل للدراسة بكلية الآداب في القاهرة، إلا أنه تركها ليكسب رزقه ويعمل موظفاً. وفي الوقت الذي كان يستلهم الآخرون رموزهم من التراث الغربي قديمة والحديث، استلهم دنقل رموزه من التراث العربي، ليعبّر من خلالها عن مواقفه السياسية. ففي هزيمة حزيران 67 كتب قصيدة «البكاء بين زرقاء اليمامة»، يخاطبها بقوله:

«أيتها العرّافة المقدّسة. جئت إليكِ مثخناً بالطعنات والدماء. أسأل يا زرقاء. عن الفم المحشو بالرمل وبالدماء. أسأل يا زرقاء عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدار». كان يؤرّخ للحقبة الناصرية التي انتهت بكارثة قومية كبرى.

الأسوأ أن مصر كانت تنتظرها حقبةٌ أسوأ أيام أنور السادات، الذي بدأ بالالتفاف على بقية الرفاق، وخاض حرباً انتهت باتفاقية «سلام» كبّلت مصر بالأغلال أربعين عاماً. وحين ذهب السادات إلى القدس، كان دنقل ممن أعلنوا رفضهم لهذه الزيارة النكراء، وسجّل موقفه في قصيدته الشهيرة «لا تصالح»، وكانت بعض أبياتها يردّدها المصريون في المظاهرات، واتخذها الكثير من الثوار وطلاب الحرية العرب شعاراتٍ لهم في مختلف فترات النضال من أجل الحرية. يقول في مطلعها:

«لا تصالح ولو منحوك الذهب. أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبِتُ جوهرتين مكانهما هل ترى؟ هي أشياءُ لا تُشترى. لا تصالح ولو قيل رأسٌ برأس. أَكُلُّ الرؤوسِ سواء؟ أقلبُ الغريبِ كقلب أخيك؟ سيقولون: جئناك كي تحقن الدم. جئناك كن يا أميرُ الحكَم. سيقولون ها نحن أبناء عم. قل لهم إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك». كان يدير حواراً بين أخٍ وأخيه المغدور، الذي يذكّره بابنته اليمامة، الزهرة التي تتسربل بثياب الحداد وتُمسك ساقيه عند عودته، وتعدو على درج القصر... هاهي الآن صامتة حرمتها يد الغدر من كلمات أبيها، ومن ارتداء الثياب الجديدة، ومن أن يكون لها ذات يومٍ أخٌ. من أب يتبسّم في عرسها. وتعود إليه إذا الزوج أغضبها. وإذا زارها يتسابق أحفاده نحو أحضانه ويلهو بلحيته ويشدوا العمامة». كان متشرّباً لثقافة مجتمعه، مستلهماً تراثه، يغوص في أعماق النفس البشرية ويعبّر عن المشاعر المستترة تحت طبقات الأحزان.

أصيب دنقل بالسرطان، الذي ألزمه فراش المستشفى ثلاث سنين، حتى فارق الحياة عن ثلاثة وأربعين عاماً، في الغرفة رقم 8 بالمعهد القومي للأورام، وهو يستمع إلى أغنيةٍ شعبيةٍ من تراث الصعيد.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3567 - الثلثاء 12 يونيو 2012م الموافق 22 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 7:29 ص

      شاعر في الصميم

      لعل اهم قصيدة له: لا تصالح. لا تصالح ولو البسوك الذهب.

    • زائر 1 | 12:14 ص

      رائع يا أمل دنقل

      معلق أنا على مشانق الصباح ،، و جبهتي بالموت محنية .. لأنني لم أحنها حية ... من اروع ما قال رحمه الله

اقرأ ايضاً