العدد 3570 - الجمعة 15 يونيو 2012م الموافق 25 رجب 1433هـ

حملة وطنية ضد العنف

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

تحاول الدراسات الميدانية المعاصرة التي تتناول العنف الإجابة على بعض الأسئلة المهمة، كما تحاول أن تجد تفسيراً لبعض الممارسات التي تتسم بالعدوان، ولماذا تكون شعوب أو قبائل أو جماعات أقل عدواناً وأكثر تسامحاً من غيرها؟ ولاسيما أن ذلك يحدث في الوقت الذي لا يختلف فيه التركيب البيولوجي بين مجموعة بشرية وأخرى. ومع أن بعض المناطق لم تدخل حرباً مباشرة؛ لكننا قد نجدها تعيش ثقافة العنف على مستوى اللاشعور الجمعي؛ لذلك لم يكن مستغرباً أن يقفز دخل الفرد في كوريا الجنوبية (13) مرة خلال ثلاثين عاماً، بينما دخلت منطقتنا (الخليج) ثلاثة حروب خلال الفترة ذاتها. مقارنة جميلة... أليس كذلك؟

بداية نقول: إن الفهم العميق لظاهرة العنف يتطلب دراسة المناخ الاجتماعي الذي يقع فيه العنف، وخصوصاً أنه يتخذ أشكالاً متعددة في المدرسة والأسرة والجامعة، وفي الحياة العامة والسجون والأندية الرياضية والأحزاب السياسية والدينية وفي أنماط الحركات الاجتماعية. ونتائج العنف باهظة الثمن لأنها قد تنتهي بارتكاب الجرائم كالقتل والسرقة والنهب والثورة والتمرد والعصيان والإضراب والتحريض والاعتداء على الممتلكات، بل وبما هو أخطر وأسوأ.

وينظر أغلب الباحثين إلى العنف باعتباره مرضاً واضطراباً اجتماعياً أكثر من كونه جريمة؛ فهو مؤشرٌ أو جرس إنذار على المجتمع أن يحسن قراءته، ومن ثم البحث عن أسباب تشكّله بهدف معالجته. ولكي نفهم ظاهرة العنف فإنه يجب علينا معرفة دوافعها الكامنة في شخصية الفرد الذي يلجأ إلى العنف أو التطرف، وكذلك بواعثها الاجتماعية. ومع أننا نميل في كتاباتنا إلى التخفيف من اللغة الأكاديمية للحفاظ على سلاسة ورشاقة الطرح، فإنه لابد أن يفرق القارئ بين مصطلحات ضرورية لفهم ظاهرة العنف من بينها العدوان (Aggression)، العدائية (Hostility)، العنف (violence) والمشاغبة (bullying). ولعل الفرق بين مصطلح وآخر هو فرق في الدرجة (الكم) وليس في (الكيف). ويكمن الخطأ الرئيس المشترك بين هذه المصطلحات في وجود إيذاء يقع على الآخر (أو الآخرين)، وبصورة متكررة ومتعمدة، وهذا يشمل الإيذاء اللفظي والجسدي معاً.

والحقيقة أن هناك رأيين في تفسير وفهم ظاهرة العنف: الأول تذهب إليه المدرسة التي ترجع أسباب العنف إلى العوامل البيولوجية، ويقف فرويد في مقدمة علماء النفس الذين يؤكدون بيولوجية العنف، وأن توجيه العدوان - سواء إلى الذات أو إلى الآخر - هو بمثابة تصريف لطاقة العدوان الداخلية، والتي لا تهدأ إلا بالاعتداء على الخارج. والرأي الآخر يتمثل في المدرسة السلوكية وتشمل نظرية «الإحباط - العدوان» للعالمين دولارد وميلر، ونظرية التعلم الاجتماعي للعالم باندورا، حيث قام الأخير وزملاؤه بالعديد من التجارب التي تؤكد ما يعتقدون به من تعلم السلوك العدواني. وأن التربية وأساليب التنشئة الاجتماعية تؤدي دوراً مهماً في تعلم الأفراد للعديد من النماذج السلوكية، وأن عامل التقليد والمحاكاة يتدخل في تشكيل السلوك العدواني.

ولو أخذنا العنف المتلفز مثالاً على نظرية التعلم الاجتماعي؛ فإننا سنلاحظ أن الأطفال (أثناء المشاهدة مثلاً) يميلون إلى تقليد الغير أكثر من غيرهم. ومعلومٌ أن مشاهد العنف في التلفزيون يقوم بها أشخاص يمتلكون القدرة على التأثير، أو على أقل تقدير لهم جاذبية لدى الأطفال. وقد أوضحت دراسة أعدها المجلس الوطني لشئون الأسرة في الأردن أن ذروة المشاهدة في الفضائيات العربية تقع في الفترة المسائية، حيث تعرض مشاهد عنيفة بمعدل خمسة مشاهد في الساعة، ما يعني أن طفلاً عمره 11 عاماً يكون قد شاهد نحو 20 ألف مشهد قتل أو موت، وأكثر من 80 ألف مشهد اعتداء، وخصوصاً أن معدلات المشاهدة لدى الطفل العربي عالية. وهذا ما أشارت إليه أيضاً دراسة علمية أجرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) لمعدلات مشاهدة الأطفال العرب للتلفزيون، حيث بينت أن الطفل العربي يقضي أمام شاشة التلفزيون 22 ألف ساعة قبل أن يبلغ الـ 18 من عمره، مقابل 14 ألف ساعة يقضيها في المدرسة في الفترة نفسها. كما أشارت الدراسة إلى أن المعدل العالمي لمشاهدة الطفل للتلفزيون قد زاد مع بداية القرن الحادي والعشرين؛ ونتيجة للانتشار الواسع للفضائيات من ثلاث ساعات وعشرين دقيقة يومياً إلى خمس ساعات و50 دقيقة.

لقد سبق أن دعونا في أكثر من محطة فكرية وملتقى أعلامي، إلى حملة وطنية ضد ألعاب العنف الإلكترونية، لأنها جزءٌ مهم مما يعرف بـ «الثقافة التحتية للعنف». وهذه الألعاب إضافةً إلى خطورتها، فإنها تشكل الخطوة الأولى لتقبل القتل وسفك الدم. كما أنها تقدم مادةً لتعلم فن الإجرام منذ الصغر وتزيد من استعداد الطفل - عماد المستقبل - لارتكاب التصرفات المؤذية. كما أشرنا إلى إحصائيات تقدر الكلفة الاقتصادية لسوق الألعاب الإلكترونية في السعودية بنحو 700 مليون ريال في السنة (187 مليون دولار). ولم نعر ذلك على خطورته أي اهتمام؛ في الوقت الذي اختصرنا فيه الرقابة الأخلاقية على جسد المرأة ومظهرها! لذلك فلابد أن نتذكر جيداً أن علاج العنف والتطرف ينبغي أن يتخذ شكل الإصلاح الاجتماعي (social reform)؛ بل وأن يصل أحياناً إلى العناية بإعادة تأهيل أو تربية الشخص العنيف.

وهنا يشار إلى لفتة سيكولوجية لا شعورية مهمة في ظاهرة العنف تتعلق بما يعرف بـ «العدوان المنقول أو المُزَاح»، فقد ينقل العدوان أو يُزاح من الموضوع الذي يتعين أن يسقط عليه إلى موضوع آخر، وعلى سبيل المثال فإن الطفل الذي تقمعه أمه أو تضربه يقوم بضرب زميله في المدرسة أو جاره في السكن، أو حتى الحيوانات كالقطط وغيرها. وكذلك الزوج الذي ينال التعنيف والقسوة من قبل رئيسه في العمل فإنه قد يكظم غضبه حتى يعود إلى المنزل لينفجر في وجه زوجته لأتفه الأسباب، أو قد يُزاح العدوان بشكل أكبر حتى في عالم السياسة فالحركات والأحزاب التي لا تستطيع مواجهة الدولة قد تتحول إلى ممارسة العنف والعدوان على فئة اجتماعية معينة تمثل الحلقة الأضعف في المجتمع!

ختاماً أتوجه بسؤال لا يصب في دائرة اللاشعور الجمعي بل في دائرة تنمية الوعي: ألا يعتقد القارئ الحصيف أن الفيلسوف نيتشه كان متشائماً حين قال إن وجود أناس لطفاء يتصفون بالرقة هي حالة شاذة بين البشر؟

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3570 - الجمعة 15 يونيو 2012م الموافق 25 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً