العدد 1486 - السبت 30 سبتمبر 2006م الموافق 07 رمضان 1427هـ

ذكريات عتيقة من الكويت ()

حسين راشد الصباغ comments [at] alwasatnews.com

كانت أول مرة وطأت قدماي فيها الكويت في يونيو/ حزيران من القرن الماضي، أي قبل نصف قرن من الزمان. تركت بيئة خضراء ذات كلأ وماء إلى بيئة قاحلة جدباء، ولكنها واعدة بالخير والنماء.

ذهبت لقضاء عطلة الصيف اللاهب في ضيافة عم عزيز لي، يعمل في مؤسسة أو صيدلية كبيرة في البحرين، وقد تم تكليفه من قبل هذه المؤسسة في بداية ليدير ويفتتح أول صيدلية للبحرين في الكويت هي صيدلية الأهالي، في موقع متميز على شارع عبدالله السالم أو الشارع الجديد كما يحلو للكويتيين أن يطلقوا عليه. وكنت أنهيت لتوي مرحلة الدراسة الابتدائية في مدرسة الهداية الخليفية في مدينة المحرق الزاهرة، مرتع صبانا وحبنا وأحلامنا. كانت تلك المدينة آنذاك عاصمة الحكم ومنها انبثقت إلى الوجود أول مدرسة نظامية أهلية وحكومية في البحرين، وافتتحت العام .

كان والدي متردداً كثيراً في موافقته على سفري على رغم أنني في أيد أمينة، وذلك نظراً إلى صغر سني. وكان لسان حاله يقول: فماذا عساني أرى في تلك البيئة الصحراوية الجافة، فأهل الكويت أنفسهم ولاسيما في شهور الصيف الحارة كانوا يأتون إلى البحرين ومصايفها في (كشتات) أو سفرات، مستقلين القوارب واللنشات البخارية، ليتمتعوا بصيف جميل في بساتين البحرين بمياه عيونها العذبة الرقراقة، ورطبها اللذيذ بأنواعه التي لا تعد ولا تحصى، فهي بلد المليون نخلة.

وقل مثل ذلك عن ثمار البطيخ والباباي والتشيكو والكنار واللوز، وهل ينسى المرء، خصوصاً عندما كنا أطفالا، السباحة في عين عذاري وعين الرحة في سترة. والمثل البحريني الدارج الذي يردده الناس هنا حول هذه العين (عين الرحة مالجش حوبة كل من جا وغسل ثوبه). بل كانت أشرعة السفن تغسل فيها أيضاً، وكذلك الينابيع البحرية والمنتشرة حول شواطئ البحرين وفي جوف البحر أيضاً. كما يزور البحرين أيضاً أهل قطر والسعودية وأهل عمان والإمارات. وأذكر أنه في المحرق كانت هناك جالية عمانية كبيرة تعمل في ميادين كثيرة ومنها القاعدة الجوية البريطانية الحربية. إلى جانب أن العمانيين قد برعوا في صناعة الحلوى العمانية اللذيذة التي لا يدانيها إلا الحلوى البحرينية الذائعة الصيت، وكذلك الرهش الكويتي. وكان هناك شخصية عمانية معروفة هو سالم العماني، هو راعي هذه الجالية العمانية. في الكويت سكنت في بيت العم العزيز في منطقة شرق من العاصمة، وهو بيت قديم بدوره الكبيرة ذات (اللواوين) وأكثر من غرفة في أسطحه الواسعة وعمارته قريبة جداً من عمارة بيوت البحرين. وفي ذلك الحي هناك بيوت كبيرة لعائلات كويتية معروفة بغناها ووجاهتها الاجتماعية، أعني عائلة الغانم والنصف والصقر، إلا أنني افتقدت في هذا البيت الملاصق لثلاثة بيوت مجاورة أي أبواب مفتوحة بين هذه البيوت كما الحال في البحرين، فمثلا في المحرق بين بيتنا وبيت عمي هذا باب مفتوح في الدور الأرضي وباب آخر مفتوح بين سطوح البيتين سالكة نهاراً وليلاً، وقلما تغلق. وأذكر أن بيت الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة (نائب رئيس مجلس الوزراء) الذي يقع شمال بيتنا عندما ندخله نجد بابا مشرعا يؤدي إلى بيت الشيخ راشد بن عبدالله الخليفة، والد الأديب والشاعر اللبيب الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة. نجد إذا بابا آخر مفتوحا إلى بيت أحمد سلمان مطر، وهو بغيتنا بدلا من السير في أزقة ودواعيس كثيرة للوصول إليه. وهذه الظاهرة لم أجدها في بيوت الكويت، وقد تكون موجودة في بيوت لم أسمع عنها بسبب أن زيارتي الأولى إلى الكويت كانت عابرة وسريعة. وأعود إلى بيوت الكويت، وفي ذلك البيت الذي أقمت فيه نجد حوشا واسعا، في جانب منه يقع «جليب»، أو بئر ماء عميق يجلب منه الماء بدلو مربوط بحبل، وهذا الماء الشديد الملوحة يستعمل فقط لغسل الصحون والأواني المنزلية وبعض الملابس، وقد رصدت زرافات ووحدانا من المهرة من أهل اليمن السعيد يقودون بل يحثون حميرهم المحملة بقرب من الماء العذب. وذكر أن هذا الماء قد جلب من شط العرب في العراق بواسطة القوارب الشراعية، واندهشت لذلك لأن الكويت آنذاك أقامت مصانع ضخمة لتحلية ماء البحر وتقطيره، ووزع هذا الماء على محطات في مناطق عدة من مدينة الكويت إذ تقوم سيارات كبيرة تحمل صهاريج أو تناكر لبيع هذا الماء وإيصاله إلى المنازل والمنشآت الحكومية والأهلية الأخرى بأجور معقولة. وعند تفريغ هذا الماء في البراميل أو الأواني يلاحظ ترسب مادة من الطين أو الصديد صفراء اللون في قاعها.

كما تقوم هذه الجماعات من مهرة اليمن بالتردد على البيوت الكويتية فقيرها وغنيها، يروجون أو يعرضون بضاعتهم من الأقمشة التي يحملونها على ظهورهم وهم يجوبون الأحياء، ويؤدون عملهم بأمانة وأخلاق عالية دون ملل أو كلل، لا يمنعهم صيف الكويت الشديد الحرارة ولا بردها القارص، ولا يأبهون بهطول أمطارها الغزيرة التي تحيل أزقتها إلى أوحال. يجوبون الأحياء والأزقة وهم يرتدون الإزار المزركش المربوط حول خاصرتهم بحزام عريض مثبت في وسطه محفظة الدراهم أو (البيزات)، إذ يودعون فيها ما تجود به الأيام من رزق معقول وبيع حلال يقيم أودهم ويحفظ كرامتهم ويؤمن معيشتهم الصعبة جدا التي لا يقوى عليها إلا أهل العزم والإرادة، والتي يتمتع بها أهل اليمن الكرام أصحاب الحضارات الغابرة، سبأ ومعين ومأرب وقتبان. وهل ينسى أهل البحرين في حقبة الخمسينات والستينات عبده اليماني، التاجر المولع بالطرب والغناء اليمني الأصيل، الذي يشنف الآذان ويطرب النفوس... إنه صديق الأمراء والملوك

إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"

العدد 1486 - السبت 30 سبتمبر 2006م الموافق 07 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً