العدد 1493 - السبت 07 أكتوبر 2006م الموافق 14 رمضان 1427هـ

ذكريات كويتية... جولة في القلب التجاري

حسين راشد الصباغ comments [at] alwasatnews.com

في أول زيارة لي إلى الكويت، صيف العام ، مشيت في شارع عبدالله السالم أو الشارع الجديد، الذي يمثل «رئة الكويت» وقلبها النابض بالحياة والحركة والنشاط التجاري والاقتصادي والمالي. هذا الشارع واسع وأرصفته مسقوفة وهي أشبه بـ «اللواوين» أمام واجهات المحلات التجارية. ويجد المشاة أو المتسوقون راحتهم في ظلال هذه المساحة المغطاة إذ تقيهم من حرارة ولهيب الشمس وخصوصا في رابعة النهار بقيظها وسموم هوائها الساخن.

بداية هذا الشارع من ناحية البحر إذ الجمارك أو «الفرضة» كما نطلق عليها في الخليج، وهي بمثابة ميناء صغير أشبه بفرضة المنامة، وقد تحولت أخيراً إلى المركز المالي بناطحاته الشاهقة التي تطال عنان السماء، أما الميناء الكبير (الشويخ) وميناء الأحمدي إذ ترسو فيه ناقلات النفط. شاهدت في هذا الشارع البغال الضخام وهي تجر العربات الطويلة المحملة بمواد البناء من أخشاب واسمنت وحديد ومواد غذائية، ولم أر أو ألمح سيارات الشحن من لوريات أو بيكابات إلا قليلا. كانت حركة الشحن البدائية تلك تواكب بداية الطفرة العمرانية القادمة والصاعدة ودخول الكويت حقبة استخراج النفط.

في وسط هذا الشارع تطل علينا صيدلية الأهالي التي سأعود إليها لاحقا، وفي نهاية هذا الشارع المستقيم تطل علينا ساحة الصفا الواسعة الأرجاء. وقبل أن أتوغل في داخلها أجد متجرا كبيرا مكيف الهواء للتاجر الهندي المعروف جيشنمال، إذ يزخر بمختلف أنواع البضائع من ملابس وعطور وأدوات كهربائية وغيرها من العاديات الأخرى. إنه تحفة عصره مقارنة بالمخازن الأخرى في هذه المنطقة التجارية ولا يضارعه في البحرين إلا مستودع إسماعيل خشابي في باب البحرين. كنا في الخمسينات ونحن طلبة نرتاده ونبتاع منه القمصان الألمانية الراقية «فانهوزن»، وأما الكرافتات فنشتريها من متجر صدري أو متجر أشرف، والكاميرات من يعقوبي.

بالقرب من ساحة الصفا تلك مكاتب تجارية كبيرة ليوسف الغانم ومكاتب الطيران والسفريات (بي أو أي سي) والطيران العراقي. وإذا توغلت قليلاً خلف شارع عبدالله سالم تجد دكاكين صغيرة تعرض الملابس والبضائع الأخرى، وما تلبث أن تجد نفسك وسط المقاهي الشعبية وهي تعج بروادها من مختلف الأعمار وخصوصاً بقايا رجال الغوص والطواويش المنقرضة. ولا نعدم في هذه المقاهي أصوات المطربين الكويتيين مثل عبداللطيف الكويتي ومحمود الكويتي إلى جانب المطربين الخليجيين الآخرين. هذه المقاهي لا تخرج في أنماطها وأشكالها وما تقدمه لزبائنها من خدمة وطرب عن مثيلاتها في البحرين وخصوصاً مقاهي الطواويش أو مقاهي الكيف على سواحل المحرق أو في مدينة المنامة التي يعمر ساحلها بها. ومازلت أذكر (ملة) الحليب اللذيذة التي يسيل له لعابنا أو الشاي كما نطلق عليها، وذلك عندما أكون في رفقة والدي فيكون مزاجه طيباً فيأمر لي بهذه (الملة) اللذيذة أو كوب الشاي المخلوط بحليب البقر الطازج لا الحليب المجفف. كان الوالد يمارس لعبة الدامة مع هواة هذه اللعبة الشعبية، ومن اللاعبين البارزين فيها عيسى أحمد مطر حفيد سلمان حسين مطر تاجر اللؤلؤ الكبير وإقطاعي زمانه، إذ كان يملك بساتين كما يقول أحفاده.

وإذا ما توغلت أكثر في محيط هذه المقاهي والدكاكين في الكويت تجد سوق المقاصيص وبيع العاديات القديمة والأواني والملابس المستعملة والمستهلكة. أهم شيء يحسه الإنسان وهو يجوب هذا الحي هو عبق الماضي ودفؤه وبساطة الناس وعفويتهم. وإذا مشيت إلى ساحة الصفا تجد أمام ناظريك مديرية الأمن العام، وأمامها ساحة صغيرة حيث يجلب إليها المحكوم عليهم بجرائم مخلة بالآداب والشرف والعرف أو المخالفين للقوانين والأعراف إذ يجلدون أمام مرأى ومسمع من الجمهور وأصحاب الفضول الذين يتسابقون لرؤية هذا المشهد الغريب والعجيب وتكون هذه العقوبة رادعة لهم وعبرة لغيرهم، كما أن في جوانب ساحة الصفا الواسعة الأرجاء يعرض البدو بضائعهم المختلفة التي جلبوها من البادية مثل اليوغرت، ومنهن بدويات جميلات يخفين وجوههن بالبراقع، ويقول المتنبي في هذا المقام:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

كما تجد أيضا أفرادا يفترشون الأرض وأمامهم كومة كبيرة من المحار أو الصدف البحرية ولديهم سكاكين يفتحون بها المحار للراغبين، فقد يحالف الحظ أحدهم فيفوز بلؤلؤة أو حصباء أو دانة. وفي الكويت وتحديدا في العام أجري أول تعداد للسكان حيث وصل إلى آلاف نسمة، وظلت زيادة السكان في اطراد، ففي العام بلغت ألف نسمة.

وفي الستينات أقيم على جانب من ساحة الصفا مجلس الأمة ذو الواجهات الزجاجية. كما يطل قصر السيف العامر (مقر الحكم) على البحر، وقريب منه مستشفى الإرسالية الأميركية الذي أفتتح في العام ، وقدم خدمات صحية جليلة لأهل الكويت، والكثير من الكويتيين لا سيما من الأجيال الكبيرة آنذاك، لا يملون الحديث عن المعتمد البريطاني الكولونيل ديكسن الذي عاش في الكويت منذ العام وحتى وفاته بها سنة ، ويميزه عن المعتمدين البريطانيين الآخرين أنه كان قريبا جدا من أهل الكويت ومحبا وودودا لهم. كما كان معتمدا قبل ذلك في البحرين في العام . وقد ووري جثمانه في مدينة الأحمدي بناء على وصيته. وهذا السياسي البريطاني الذي ولد في بيروت العام ، لعب دورا سياسيا واجتماعيا مهما في تاريخ المنطقة بدءا من جنوب العراق التي عمل فيها منذ العام . كما كان لزوجته دور اجتماعي مشهود في الكويت، ويطلق عليها الكويتيون أم مسعود ولها كتاب موسوم حول أزهار الكويت. وهي وزوجها أحبا الكويت وصحراءها حبا جما، وتأقلما مع معيشة الناس وعاداتهم البسيطة والعفوية في ذلك الوقت

إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"

العدد 1493 - السبت 07 أكتوبر 2006م الموافق 14 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً