العدد 1500 - السبت 14 أكتوبر 2006م الموافق 21 رمضان 1427هـ

في ذكرى علي (ع)

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أربع سنواتٍ وتسعة أشهر، كانت تلك هي كل المدة التي حكم فيها الإمام علي (ع) العالم الإسلامي، الذي شهد تجربةً فريدة ً في الحكم، ذاق خلالها حلاوة العدل وطعم المساواة الحقيقية والرفق بعيال الله... كان الحاكم خلالها يجلس مع الناس من دون حاجب، تُجبى له الأموال فيقسمها بالسوية على الجميع، وعندما كانت تأتيه الغنائم يبدأ بالأيتام، فيطعمهم بنفسه، حتى قال بعض معاصريه: «تمنيت لو أني كنت يتيماً». وعندما يفرغ من التوزيع يغسل الخزانة (بيت المال) ثم يصلي ركعتين شكراً لله على التوفيق لأداء الأمانة.

يأتيه أخوه الضرير عقيل وقد أنهكه الزمان بكثرة العيال شُعثِ الشعور غُبرِ الألوان من الفقر، يسأله أن يعطيه صاعاً من القمح من مال المسلمين، فيحمي له حديدةً ويقرّبها إليه فيصرخ صريخ متألمٍ موجوع، فيقول له: «ثكلتك الثواكلُ يا عقيل! أتئن من حديدةٍ أحماها إنسانها للَعِبِه، ولا أئن من نارٍ سجّرها جبّارُها لغضبه»؟

جاءه الأشعث بن قيس، رأس المنافقين في عصره، يطرق بابه وقدّم له نوعاً من الحلوى ملفوفةً في وعاء، فسأله: أصِلةٌ أم زكاةٌ أم صدقة؟ فذلك محرّمٌ علينا أهل البيت. فقال: لا هذا ولا ذاك، ولكنها هدية، فقال: «هبلتك الهبول. أعن دين الله أتيت لتخدعني». لقد هانت الدنيا ثم هانت ثم هانت... حتى يطمع هذا الأحمق أن يخدع علياً بطبقٍ من الحلوى!

ثم يطلق صرخته المدوية: «واللهِ لو أُعطِيتُ الأقاليمَ السبعةَ بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلبَ شعيرةٍ ما فعلته. وإن دنياكم عندي لأهون من ورقةٍ في فم جرادةٍ تقضمها. ما لعليٍّ ولنعيمٍ يفنى، ولذةٍ لا تبقى؟ نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين».

أربع سنوات وتسعة أشهر، شهدت ثلاث حروب حاسمة، ملاحم من الصراع الأبدي بين المصالح والمبادئ، بين القيم في أعلى تجلياتها، والطمع والجشع في أخس انحداراته. حربان كان المال والجشع والمطامع الدنيوية وراءهما (الجمل وصفين)، والحرب الثالثة (النهروان) كان وراءها جهل «الخوارج» الجفاة الغلاظ بأهداف الدين العظيم.

يأتيه اثنان من أصحابه القدامى ليلاً بعد أن بايعته الجماهير، للتفاوض على جزءٍ من الكعكة، فيطفئ شمعةً ويضيء أخرى، لأن الأولى من مال المسلمين والأخرى من ماله الخاص، فلم يطيلا عنده المكوث، فهذا شخصٌ لا يفاوض ولا يناور، ولا يستمع إلى لغة التسويات والتكتيكات، فكيف يفرّط في بلدٍ من يحرص على شمعة؟

وفي السياسة التي أرادها أن تكون نقيةً بيضاء، كان الآخرون يبيعون ويشترون. الدين والضمير في كفة، وفي كفة أخرى إقطاعيات العالم الإسلامي تقدّم رشاوى للطامعين. فمِصرُ أعطيت طعمةً مقابل انحياز أحد أقطاب السياسة إلى جانب حزب الرجعية وفلول الثورة المضادة.

في نهاية حرب الجمل، يُؤتى بسيفِ صديقه ورفيق دربه الزبير القتيل، فيحمله ويبكي، متذكّراً الحروب والغزوات التي خاضاها معاً فترة النضال الذهبية من أجل إعلاء قيم الخير والمساواة والصلاح، قبل أن تسيطر المطامع على القلوب فتفرّق بين الرفاق، ويؤبّن صاحبه القديم بكلمة سجلها التاريخ: «سيفٌ طالما ذبّ الكُرَب عن وجه رسول الله».

ملامح من الذكريات الجميلة التي خلّدتها السياسة النظيفة، ظلت تداعب أحلام الشعوب طوال قرون، حكمها هاجس الرفق بالبشر الذين كرمهم الله، سرعان ما استبدلها الطغاة بسياسة القمع والأثرة والاستبداد... والسوق العنيف للقطعان

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1500 - السبت 14 أكتوبر 2006م الموافق 21 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً