العدد 3600 - الأحد 15 يوليو 2012م الموافق 25 شعبان 1433هـ

الإسلام لليبيين والليبرالية للدولة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ليست الغرابة في أن يقع «ربيعٌ عربي» يزيل أنظمة ويهرِس أخرى فقط، وإنما الغرابة أيضاً في المشهد التالي لذلك الربيع. تونس، التي أعاد قولبتها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً (وهو الأهم) كانت الأكثر تأهيلاًً، في أن يتولّى الليبراليون زمام الأمور، بعد زوال حكم زين العابدين بن علي. فبورقيبة، نجح نجاحاً كبيراً، في القضاء على أهم مشكلات المجتمع التونسي، وهو القبلية الاجتماعية، ثم اختط نموذجاً علمانياً متطرفاً، لم يكن أقل من سابقه، لا من حيث النجاح الإجرائي، ولا من حيث تأثيراته على نشاط الدولة والمجتمع معاً.

لكن الغرابة، هي أن أول انتخابات، أفرزتها التجربة التونسية الجديدة بعد الثورة، كانت إعادة تأكيد الحضور الديني داخل المجتمع التونسي، والذي حاربه بورقيبة ومن بعده بن علي. حيث حققت حركة النهضة، فوزاً كبيراً في تلك الانتخابات، رغم عنوانها الديني المعتدل جداً، وبالتالي، رأينا فشل النموذج البورقيبي وما تلاه من حكم حزب المؤتمر الدستوري في تهشيم القاعدة الشعبية للإسلاميين في تونس. بل حتى الفوبيا التي خلقها الإعلام التونسي أيام بن علي من الإسلاميين، والادعاء بظلاميتهم السياسية والفكرية، لم تحُلْ دون قيام تحالف إسلامي - علماني بعد الثورة، جَمَعَ ما بين الشيخ راشد الغنوشي والمنصف المرزوقي، في حكومة شراكة سياسية.

في مصر، كان الأمر متوقعاً. فنظام الرئيس المخلوع حسني مبارك مارَسَ حملة إقصاء راديكالية بحق الإسلاميين منذ الثمانينات من القرن الماضي، وبالتحديد ضد جماعة الإخوان المسلمين، إلاَّ أن هامش التنفيس المحدود، الذي أوجده الحزب الوطني الحاكم، قد أتاح للإخوان أن يلِجُوا البرلمان، ولو بشكل نسبي، وبالتالي كان الأمر عبارةً عن مجسٍّ لأن يرى المراقبون حجم حضور الإسلاميين في الفضاء العام للمجتمع. كما أن الجمعيات والمؤسسات والصحف كانت هي الأخرى إحدى وسائل قياس قوة الإسلاميين في مصر، فضلاً عن انتخابات الجمعيات المهنية كالأطباء والمحامين التي كانت هي الأخرى تشكل قياساً آخر لقوتهم الاجتماعية.

الغريب جداً كان في المشهد الليبي، والذي تفاجأ الجميع قبل أيام بفوز الأحزاب الوطنية الليبرالية في انتخابات المجلس الوطني، وليس الإسلاميين. فالقذافي، لم يكن قد شيَّد دولةً بالمطلق. هو بالكاد، كان نظاماً أمنياً، انغمس في حروب الخارج، والمؤامرات ضد دول هنا وهناك، والرقص على القارة السمراء، عبر التأمُّر على دولها وزعمائها «العبيد» كما كان يسميهم العقيد. كان القذافي يرمي بأموال الثروة الوطنية، على ملذاته الشخصية، وعلى ملذات أبنائه. كما أنه قام بممارسات، ووضع أقوالاً اعتبرت تجديفاً في الإسلام، وتجنياً على القرآن الكريم، وقام بتعطيل الكثير من الأحكام الإسلامية في القضاء، وفي غيرها من المعاملات. وبالتالي كانت ليبيا «اجتماعياً» مؤهلة، بأن يظهر فيها إسلاميون، سواءً إخوانيين أو سلفيين متشددين، يصححون من حالة الإلغاء التي مارسها القذافي بحقهم وبحق انتماء ليبيا الديني الأوسع، وقد ظهر ذلك بالفعل.

لقد تكوَّنت الجماعة الليبية المقاتلة، صاحبة الفكر السلفي، خلال عقد التسعينات. بالتأكيد كان هناك تنظيم إسلامي منذ العام 1982 وآخر في العام 1989 إلاَّ أنه تخلق بالشكل الذي أشرنا إليه، وضمن سياق الفكر السلفي. ورغم أن هذه الجماعة، انتهت عملياً بعد الضربات الأمنية لها في العام 1995 والعام 1999؛ وسياسياً بعد المراجعات التصحيحية في السجون في العام 2009، إلاَّ أن النزعة الإسلامية بقيت ظاهرةً في ليبيا. وربما شاهدنا ذلك جلياً خلال الثورة الليبية، التي كانت تحمل العديد من العناوين الإسلامية، فضلاً عن إسلامية القيادات العاملة في الميدان.

المفاجأة كما قلنا جاءت عندما أفرزت النتائج شبه الرسمية لانتخابات المجلس الوطني، تقدم تحالف القوى الوطنية الليبرالي (60 حزباً) بزعامة محمود جبريل. هذا الفوز لا يمكن أن تتم قراءته بشكل عابر، لأنه في الحقيقة يعكس اتجاهات اجتماعية، وأذواقاً سياسية، وبنى فكرية، موجودة داخل المجتمع الليبي، لم تكن تعكسها الممارسات ذات الصورة الفاقعة للإسلاميين، والتي لم يكن أحد يعيرها أدنى اهتمام بالمرة. كيف يمكن أن يحقق الليبراليون، نتائج كبيرة، في ظل تقدم إسلامي في العديد من مناطق الثورات العربية، بل وفي دول عربية لم تشهد ثورات شعبية كالمغرب؟ بل كيف أتى فوز تلك القوى في ظل نزعة دينية، كانت يعتقد الكثيرون أنها طاغية في ليبيا؟ باعتقادي، أن السبب في ذلك، مرتبط بالأساس بصيغة المجتمع الليبي القائم على القبلية. وهو سبب وجيه، يمكن إدراكه بمعرفة تفصيلاته.

فالمجتمع الليبي هو مجتمع قبلي، تسيطر عليه من أقصاه إلى أقصاه ستون قبيلة، تختلف أحجامها عدة وعدداً. القذافي عندما جاء إلى السلطة لم يصطدم مع هذا الحزام القبلي، ليس حباً فيه، بل لأنه لم يكن قادراً بالأساس أن يفعل ذلك. كما أن سَمْت المجتمع الليبي كان بتلك الكيفية والتركيبة، بما فيه حال القذافي نفسه، والذي كان ينتمي إلى قبيلة القذاذفة. في المحصلة، بقِيَ المجتمع القبلي في ليبيا متماسكاً، بل ولاعباً أساسياً في الدولة والمجتمع معاً.

ولأن المجتمع القبلي هو مجتمع ينتمي في الأصل إلى مُكونات بنائية خاصة، من حيث طبيعة الانتماء، والعلاقات والسلوك والجزاءات، فهو يصبح مزيجاً ما بين المجتمع الحديث والمعْشر، وبالتالي، هو لا يدخل في السِّجال الكلي ما بين الثقافات، والتناقضات الاجتماعية والحزبية. بل الأكثر من ذلك، هو يقترب من الحالة الدينية على مستوى المحافظة الأوليَّة، وليس على مستوى التديُّن العمودي، الذي ينتهي في كثير من الأحيان، إلى الدِّين المسيَّس، أو حسب التعبير الشائع: الإسلام السياسي. وقد وجدنا أن ذلك الاقتراب القبلي للحالة الدينية، ينتهي عادةً إلى التهجين السلوكي والقانوني، كما في حالة قانون الصحراء، الذي تم إقراره في ليبيا خلال القرن السابع عشر، والذي تسالمت عليه العديد من القبائل الليبية، وهو بالأساس مزيجٌ ما بين العرف القبلي والدين الإسلامي.

ربما هنا، أستحضر السلوك القبلي/ العشائري في العراق، عندما تعاطى بالمواجهة مع موضوع التطرف الديني بعد العام 2006 في الأنبار، ثم وجدناه يسير باتجاه التعاطي في الانتخابات النيابية في العام 2010 مع الكتل غير العلمانية، والتي أتت بالقائمة العراقية برئاسة إياد علاوي، بواحد وتسعين صوتاً. في المحصلة، فإن الموضوع القبلي في ليبيا، لعِبَ دوراً مهماً في صعود القوى الوطنية، وهو بالمناسبة، عنوان بحثي دسم، يمكن التفصيل فيه، أكثر، لأنه ينطوي على كثير من الأهمية.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3600 - الأحد 15 يوليو 2012م الموافق 25 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 4:52 م

      القبلي ليس مرادف للجهل

      تعليقا على ما قاله المتداخل الخامس فالقبلية لا تعني الجهل بالمطلق وإنما هي تعبير عن انتماء النسب وإلا فكلنا جئنا من قبائل . من سياق مقال الكاتب يبدو أنه يقصد دور القبيلة في توجيه والتأثير على المجتمع

    • زائر 5 | 6:56 ص

      الكاتب لا يعرف مجتمعنا جيدا

      محمود جبريل من قبيلة ورفلة التي ساندت القذافي ولازالت ، حتى انها لم ترشح ابنها محمود جبريل الا القليل منهم ، والشرق الليبي قبائل مختلفة ليس لها علاقة بقبائل غرب ليبيا ويعتبرون قبيلة ورفلة قبيلة متواطئة منذ عهد الطليان ، بالرغم من ذلك كانوا هم اكثر من رشح لمحمود جبريل الورفلي.

      والسبب واضح لان الشعب الليبي لاينسى من قدم رأسه فداء لليبيا منذ انبلاج الثورة أضف الى ذلك ان الشعب الليبي يحب الشخصيات الليبية المثقفة المشهورة عالميا.
      والقبلية اصبحت منبوذة من الشعب الليبي لانها تذكرهم بعهد القذافي.

    • زائر 4 | 6:21 ص

      تخبط

      السيد الكاتب يتخبط عشوائيا ويصف الشعب الليبي بالقبلي اي بالجاهل الذي ينقاد وراء شيخ القبيلة ( وذلك اشارة الى غيبيات عنده ) اؤكد لك وبنسبة 100% ان الانتخابات الليبية لم تدخل بها الفبيلة وما الفبيلة الا غطاء اجتماعي ولا دخل لها بالسياسة

    • زائر 3 | 2:12 ص

      شكرا لكم

      بالعكس، انا استمتع دائما بالقراءة للأٍستاذ محمد عبدالله خاصة في الشأن الإيراني والعربي، كثير من كتابنا منغمس في القضايا المحلية، وغير قادر على التحليل في القضايا المحيطة، لذا فان التخصص لا يعيب أحدا بمقدار ما يعطيه قوة وإحاطة في المجال الذي يتخصص فيه.

      أتمنى لو اقرأ منك تفصيلا عن نجاح الحالة القبلية في تمكين الليبراليين في ليبيا.

    • زائر 2 | 1:02 ص

      بس يبو عبدالله خلك كذا احسن

      يوم الملف الليبي ويوم الملف الايراني وعندك نيكارجوا عندهم مشاكل وعرج بقلمك على بنما في هلايام كلام عن مظلوميه شعبها ولا تنسى نيوزلاندا السكان هناك في اجمل بقعه في العالم وهي كريست جيرج يتحلمطون ايقولون الشتاء عندهم عندنا صيف وطايح حظ السياحه العالميه عندهم والحكومه مهمشه مطالبهم المتكرره سحب اوكلاند لخط الاستواء اسوتا بتايلاند عمي البحرين فيها بلاوي تكفي كتابه مجلدات موعمود يومي .ديهي حر

    • زائر 1 | 11:34 م

      أن يحصل

      مقال مهم وهو موضوع في الحقيقة لم يكن أحد يتوقع أن يحصل في ليبيا

اقرأ ايضاً