العدد 3609 - الثلثاء 24 يوليو 2012م الموافق 05 رمضان 1433هـ

دروس من الأرجنتين في العدالة الانتقالية

ريم خليفة Reem.khalifa [at] alwasatnews.com

عند متابعة وقراءة أحداث الساحة العربية ومقارنتها بتاريخ أنظمة دول أميركا اللاتينية، نجد أن كل الأنظمة القمعية على اختلاف درجة وحشيتها تتشابه في جانب رئيسي، وهو رفض المعارضة بأي شكل من الأشكال والتعامل مع هذه المعارضة بوصفها شراً، يجب القضاء عليه وليس التعامل والحوار معه. فهؤلاء المعارضون وعلى الرغم من أنهم مواطنون، إلا أنه يتم التعامل معهم وكأنهم أعداء أجانب يهددون أمن الدولة، ولهذا السبب فكل الطرق الوحشية هي طرق مشروعة للتعامل معهم. ومبررات العسكر مثلاً في الأرجنتين لانتهاك حقوق اليساريين كان هو نفس مبرر أجهزة حسني مبارك في التعامل مع كل أطراف المعارضة في مصر طوال الفترة الماضية، فقد كان المبرر أن هذه الانتهاكات كانت ضروريةً لحفظ أمن الدولة!

إن الحقيقة، والعدالة، وجبر الضرر، وضمانات عدم التكرار، يجب ألا تؤخذ بالاعتبار كاستراتيجيات منفصلة لمعالجة الماضي، وإنّما كأجزاء من جسم واحد. يتطلّب تعقيد الأوضاع التي تُطبّق فيها آليّات العدالة الانتقاليّة وحجمها - أي المجتمعات التي اختبرت انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان أو للقانون الإنساني - مزيجاً شاملاً من هذه التدابير.

وهناك مجتمعات مازالت تفشل في معالجة الماضي فيرتفع احتمال تجدد أعمال العنف والانتهاكات مثلما يحصل في بعض دول المنطقة العربية التي لم تستطع التغلب على الحلول القادمة من لجان تقصي الحقائق على الحلول الأمنية. في مقابل ذلك، نجد أيضاً أمثلة عن بلدان خرجت من النزاعات أو من الأنظمة القمعيّة وأنشأت أنظمة قويّة لسيادة القانون كالأرجنتين، وهي واحدة من حالات عديدة أسست فيها عملية منسقة للعدالة الانتقاليّة لاستتباب الأمن وأنظمة سيادة القانون.

إن تنفيذ العدالة الانتقالية ومحاكمة رجال النظام السابق هو ما حدث في الأرجنتين، وكذلك في تشيلي وغيرهما، ويحدث الآن في تونس ومصر، ولكن تختلف الطرق باختلاف كل بلد والنظام الذي كان معمولاً به. ففي حين كانت المقاومة في الأرجنتين في صورة تفجيرات لأن النظام السابق كان نظاماً عسكرياً يمتلك أسلحة عسكرية، تدار المقاومة داخل مصر في صورة إحداث انفلات أمني وجرائم متفرقة وإشعال الفتن والقلاقل من داخل المجتمع، لأن نظام مبارك كان نظاماً فاسداً امتلك المال وحفظ له الأمن.

والسعي نحو التحول الديمقراطي، دون إعادة الحقوق لأصحابها، لا يمكن أن يعد تحولاً ديمقراطياً إلا من خلال الاعتراف بارتكاب الأخطاء. وتجربة الأرجنتين أثبتت أن الحقوق لا تسقط بالتقادم، وأن ترك المحاكمات تحت دعوى المسامحة هي دعوى خاطئة جداً؛ لأن غلق الملفات دون إظهار الحقيقة وتعويض المتضررين معنوياً ومادياً، يفتح باب الثأر ويزيد من التوتر.

ولو نظرنا إلى تاريخ محاكمات حقوق الإنسان عملاً بتطبيق العدالة الانتقالية، فهي بدأت في اليونان في سبعينات القرن الماضي، وبعدها في الأرجنتين (1983) وتشيلي (1990) وبعدها العديد من دول أميركا اللاتينية. أيضاً مساهمات أوروبا الشرقية في التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان من خلال فتح ملفات الأمن الداخلي كما حدث في ألمانيا بعد سقوط حائط برلين، وكذلك عمليات التطهير في تشيكوسلوفاكيا في 1989. ثم جاءت تجربة جنوب إفريقيا من خلال لجنة «الحقيقة والمصالحة» الشهيرة في 1995 التي تشكلت للتعامل مع قضايا الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها السكان السود في جنوب إفريقيا في فترة التمييز العنصري الطويل.

أما المغرب، البلد العربي الوحيد قبل مرحلة الربيع والصحوة العربية، فقد قام بإجراءات التحول وتسليم الحكم إلى المعارضة في 1995، والتي أفضت إلى إنشاء هيئة «الإنصاف والمصالحة» لتقصي الحقائق واختتمت أعمالها في دفع تعويضات للضحايا والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات في 2005. وبهذا العمل تكون المغرب صاحبة تجربة فريدة في التعامل مع «العدالة الانتقالية» على مستوى المنطقة العربية، والتي تمت من داخل النظام نفسه ولم يتم تنفيذها عقب انتهاء حرب أهلية أو ثورة.

إن المصالحة الحقيقية والبدء في حوار جاد لا يعني تجاهل الانتهاكات التي ارتكبت بحق المواطن، ولكن يجب فتح هذه الملفات ومعالجتها والاعتراف بها وإعلان حق الضحايا والاعتذار لهم وتعويضهم، ثم إعطاء العفو على قدر الحاجة، فمن دون ذلك لا يمكن البحث والسعي في حلول مصالحة وحوار مستعد للاعتراف بأخطاء الماضي.

إقرأ أيضا لـ "ريم خليفة"

العدد 3609 - الثلثاء 24 يوليو 2012م الموافق 05 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 8:59 ص

      عناوين كبيرة

      عناوين كبيرة تعبر عن هذيان فكرى وتمنيات ابليس في الجنة

    • زائر 4 | 4:15 ص

      العدالة = القصاص من القتلة

      لك ألف تحية على مقالك الرائع ، و لكن القصاص من القتلة و المعذبين و المجرمين و سفاكي الدماء و المحرضين على الفتنة الطائفية هذا لا يمكن المساومة عليه .

      تحياتي / ابو سيد حسين

    • زائر 3 | 3:31 ص

      طواغيت العصر اشد من سلفهم

      فعلا هذا تفكير كل الطواغيت يريدون التخلص من المعارضين حتى لو بقتلهم جميعاً من دون رحمة ولا شفقة

    • زائر 2 | 2:41 ص

      انت شتقولين الجماعة مصرّين على محاكمة سجناء الرأي

      في كل بلد يتوقع ان يحدث تغيير واخذ دروس ومواعظ الا عندنا في البحرين فالحالة حسب ما يصنفها البعض انه احسن من كده ما فيش. لذلك ستبقى الاوضاع تتردى وستبقى حقوق المواطن غير مصانة والاهم هي حقوق رجال الامن المطالب بها فقط.
      تلك المعادلة المقلوبة التي نشهدها هنا والتي لا امل في تغييرها في ظل عقليات من نوع يعيش في قرون خلت ومضت.
      لست متشائما ولكني لست متفائلا مع ما يحصل من تردي وتسلط لمن لا تهمهم الا مصالحهم الفردية ويختزلون الوطن في هذه المصالح الضيقة

    • زائر 1 | 11:38 م

      العدل

      العَدْل : ماقام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الجور، والعدل هو الحكم بالحق.

اقرأ ايضاً