العدد 3630 - الثلثاء 14 أغسطس 2012م الموافق 26 رمضان 1433هـ

صوت الأمهات يعلو على صوت الدكتاتورية... مثال الأرجنتين

ريم خليفة Reem.khalifa [at] alwasatnews.com

مجتمعات دول أميركا اللاتينية قريبة جداً في مشهدها السياسي السابق من المشاهد التي تعايشها اليوم الساحة العربية من الخليج إلى المحيط. فالأوضاع التي تمر بها بلدان المنطقة العربية لا تختلف كثيراً عما مرت به شعوب دول أميركا اللاتينية في حقبها القمعية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي عندما انتشرت قوات الانقلاب العسكري للقضاء على المعارضة اليسارية المنتشرة بين النقابات، والطلاب، والناشطين من خلال بث أساليب الإسكات وترويع الناس ومحاربة أرزاقهم.

إن صفحات التاريخ تذكر شعوب هذه القارة بما اقترفته يد الدكتاتورية عبر ما يسمى بـ «الحرب القذرة» في اختفاء أبناء الحرية ووضعهم في معسكرات وسجون الاعتقال الجماعية كرهائن تزايد وتهدد من يطالب بدولة عدالة وديمقراطية.

وحملات الرهائن والمفقودين التي تبنتها الكثير من الحركات الشعبية في أرجاء القارة اللاتينية انطلقت بها بكل شجاعة أمهات الأرجنتين متحديات سلطة لم تكن ترحم لا ابناً ولا ابنة. وآثارها مازالت ملموسة في ملف تاريخ هذا البلد على سبيل المثال. وهو الذي ظل يكرر مأساة تجربته في المحافل الدولية وفي جلسات مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة في جنيف على مسامع الدول التي تمارس القمع وتزايد على القانون وتتلاعب بمصير الناس في محاكمات صورية.

لقد أشرنا في المقال الأخير لدور حركة أمهات ساحة مايو في العاصمة بوينس ايرس التي كانت أكثر الأصوات حدة وتحولت اليوم إلى حراك عالمي يدعم أمهات العالم من يعشن أو عايشن نفس التجربة في تواصل مستمر لمنع تكرار ذلك في دول أخرى.

لقد نظمت الأمهات صفوفهن وارتدت الوشاح الأبيض في إشارة للون السلام ورفعت لافتات بصور أبنائهن وبناتهن ووضعن على صدورهن بطاقات تعريفية بصور وأسماء وأعمار ويوم الاعتقال أو الاختفاء وذهبن بداية بأعداد صغيرة زاحفات إلى ساحة مايو «بلازا دي مايو» ثم كبرت هذه الأعداد لتصبح حشوداً من نساء تصرخ بأعلى صوتها «أين ابني...؟ أين ابنتي...؟ ابني ابنك... ابنتي ابنتك... طفلي طفلك». وطالبت الأمهات بمعرفة مصير أطفالهن «المختفين» عن طريق التجمع وعرض أنفسهن. وقامت الأمهات بتشبيك أذرعهن وتطويق الساحة خارج القصر الرئاسي وهن يحملن صور وأسماء أطفالهن. كن يفعلن ذلك كل يوم خميس في الثالثة والنصف عصراً على مدى ثلاثين عاماً يرددن «أعيدوهم لنا أحياء». وقد جذب هذا الحدث البسيط المتكرر انتباه العالم وحول مصير «المختفين» إلى قضية من قضايا حقوق الإنسان.

وبحسب موقع «انترناشينونال وومين ميوسيم» فقد وثق عن الحركة (تمت إعادة الحكومة المدنية إلى الحكم وتم تحويل منفذي «عمليات الاختفاء» إلى المحاكمة، وتلقى العديد منهم عقاباً خفيفاً أو أفلتوا من العقاب. وعرضت الحكومة على الأمهات تعويضاً مقداره 250000 دولاراً أميركياً عن كل طفل. وأدى الجدال حول قبول التعويض إلى تقسيم المجموعة إلى قسمين. وواصلت الأمهات المسيرات، وانضمت إليهن مجموعة من الجدّات. كانت العديد من النساء «المختفيات» حوامل عند أخذهن، وقامت الجدات بالبحث عن هذا الجيل التالي من الأطفال المفقودين. وحتى هذا اليوم، تم تحديد مكان ما يزيد على 80 حفيداً.

ووثقت تجربة حركة أمهات ساحة مايو في لقطات من الفيلم الوثائقي «لاس مادرس: أمهات ساحة مايو، الأرجنتين» الذي قامت سوزانا مونوز ولورديس بورتيللو بإنتاجه في العام 1985 بينما قامت المؤلفة ماتيلدا ميلليبوفسكي بتجميع الإفادات المباشرة من أفواه 21 أمّاً. وهي نفسها أم لطفل «مختفٍ» في كتاب «دوائر الحب حول الموت: قصة أمهات ساحة مايو». ولعل شهادة إنريكيتا ماروني في هذا الكتاب قد تكون دافعاً للأمهات العرب في الاستمرار في مواجهة الدكتاتوريات قامعة طموحات الأبناء. تقول ماروني وهي أم جوان باتريسيو ماروني وماريا بياتريز ماروني دي رينكون وحماة كارلوس البرتو رينكون الذين اختطفوا في 5 أبريل/ نيسان 1977 «في الواقع، لم تتسبب هذه المأساة في إصابتنا بالشلل. بل على العكس، لقد أشعلت الحماس فينا، وهذا أمر مدهش. لقد منحتنا القوة لبدء السير في طريق لم نكن نفكر أبداً في سلوكه. في البداية، سألنا، وتوسلنا، وقدمنا الالتماسات المتكررة كي نعرف أي معلومات عن أبنائنا. هل ابتلعتهم الأرض؟ فيما بعد، واجهنا الدكتاتورية مباشرة للمطالبة بعودتهم. لم نكن نقلق بشأن من هو الأقوى. إن حبنا لأبنائنا جعلنا نتحدى جهازهم القمعي بكامله».

هذه كانت كلمات ملهمة لأمٍّ أرجنتينية التي أصبح صوتها وصوت غيرها قوة قومية في فتح ملفات الرهائن والمختفين الذين كانت تخطفهم السلطات الأرجنتينية القامعة آنذاك متعاونة ومتواطئة معها دول الجوار اللاتيني. ولذا ليس من المستغرب أن نشهد شيئاً مماثلاً في زمن الصحوة العربية فالأمهات من الخليج إلى المحيط بمقدروهن فعل التغيير وهذا لن يستغرق طويلاً.

إقرأ أيضا لـ "ريم خليفة"

العدد 3630 - الثلثاء 14 أغسطس 2012م الموافق 26 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً