العدد 3663 - الأحد 16 سبتمبر 2012م الموافق 29 شوال 1433هـ

في البيئات الخانقة الإنسان مشغول بوضعيته في القطيع

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

البيئات الخانقة لا يمكن أن تتيح للفكر الإنساني أن يتجدد لسبب بسيط أن الإنسان وهو الأصل في تلك البيئات الخانقة أول ضحاياها ومادة تجاربها. وليس الفكر وحده باعتباره «إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول»، بل يطول ذلك نمط الحياة وإيقاعها وأثرها وقيمتها. ولا يكون إعمال العقل إلا في النقيض من تلك البيئات لهتك ستْر المجهول؛ لذا تمتد مساحة المجهول في تلك البيئات وتتضخّم، وتصبح المعرفة ضرباً من التجرؤ ونوعاً من التطاول.

في البيئات الخانقة يُقاد البشر كما يُقاد القطيع. القطيع لا علاقة له بالفكر. له علاقة بأمر «افعل» بحسب الوصَفات وبحسب اللوائح وبحسب النظم وبحسب القوانين، ولا يملك ذرة رشْد تدلّه على فحص أو استجواب أمر «افعل». وما يفعله لا علاقة له به. ليس فعله. إنه فعل من أراد ووجّه ورسم وخطّط. القطيع في غياب. حضوره يثبت ويتكرّس فقط لحظة «العَلَف» ولحظة أن يؤخذ بخطامه أو لجامه إلى حيث ينتمي: الحظيرة!

يحدث في البيئات الخانقة بامتياز أن يخرج أحدهم على تلك الوصفة المرعبة. يخرج على واقع بات مُسلّماً به ويُعدّ الخروج على ما استتبّ ورسُخ بمثابة فعل ما بعد الانتحار. مثل أولئك يقفون في عرائهم ووحشتهم مما يدور ويتطاول ويتكرّس من حولهم، ولكنهم أمة في الصنيع الذي يؤسسون والموقف الذي به يبادرون. مثل ذلك الخروج على ثقافة وواقع القطيع هو ما يمهّد بتكراره لانحسار وتلاشي تلك البيئات الخانقة ومعها انحسار وتلاشي البشر/ القطيع.

ونعلم جميعاً أن لذلك ضريبته وتُهَمَه الجاهزة. ضريبة أن تتخلص من كونك رقماً في قطيع إلى بشر ضمن منظومة الفعل والخيار والحركة والتأثير. ضريبة أن تفكّر وأن تقلّص برّيات العتْمة والجهل من حولك. ضريبة أن تُوصم بالارتباط بأجندات خارجية: تهمة ووصفة الفشل التي لا تريد أن تبحث وتقرأ في أسباب ما يحدث كبر أم صغر ما يحدث. كأنه يُراد لك أن تتمسك وتنشدّ إلى حس وخيار القطيع كي تكون في منجاة من لعنة تلك التُهم والوصفات. ألاّ تصاب بحنين الاحتجاج وحق الحراك العام مع ما يدور من حولك وأن تنسى هراء الحقوق والواجبات. الحق في أن يتم تغييبك وتحويلك إلى شيء ومع ذلك لابد لذلك الشيء من أداء واجباته!

وفي أحد الشواهد التاريخية على فعل الجرأة تلك وفي بيئات ممعنة في خنقها يبرز فعل وأثر تلك الجرأة. موقف ينمّ عن الانحياز إلى التفكير لا إلى الصمت عنه وتجاهله.

قام أعرابي بين يدي سليمان بن عبدالملك (سليمان بن عبدالملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية (54-99 هـ/674-717 م)، الخليفة الأموي السابع. ولد في دمشق وولي الخلافة يوم وفاة أخيه الوليد بن عبدالملك العام 96هـ. ومدة خلافته لا تتجاوز السنتين وسبعة شهور. حكم في الفترة ما بين 96-99 هـ/715-717م) فقال: «إني أكلّمك يا أمير المؤمنين بكلام فيه بعض الغلظة فاحتمله إن كرهته، فإن وراءه ما تحبه إن قبلْته.

قال: هاتِ يا أعرابي. قال: فإني سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن من عظتك تأدية لحق الله وحق إمامتك، إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، فابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فهُم حرب للآخرة، سلْم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه (في ذلك نظر يتعلق بائتمان الله) فإنهم لن يألوا الأمانة تضييعاً، والأمة عسفاً وخسفاً، وأنت المسئول عمّا اجترحوا، وليسوا مسئولين عمّا اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غُبْناً من باع آخرته بدنيا غيره».

لا أحلام للبشر الذين يتحولون إلى قطيع في. البيئات الخانقة والمُحاصِرة لخياراتهم. الذي لا يملك حقه في أن يفكّر وينظر ويقرأ ما حوله في تجرّد تام ومن دون مؤثرات لضغوط ومراقبة على مدار الساعة، لا أحلام له؛ وحتى الكوابيس هي وليس هو، في منأى عنه. كأنه يُراد لشعوب وبشر هذا الجزء من العالم أن تؤبّد صفة وواقع القطيع لديه. القطيع الذي لا يملك أن يحتجّ أو يصرخ أو يرفع صوته أو سبّابته إعلاناً عن خلل وإشارة إلى فساد ولفت نظر لتجاوزات.

القطيع لا يملك خيار الخروج على واقعه مهما كان في أحطّ مستويات تردّي وسوء ذلك الواقع.

وفي الوقت الذي تفرض المراحل على كثير من الأنظمة التي تأبّدت ممارساتها - أو هكذا يبدو - في التعامل مع الإنسان باعتباره عيّنة من قطيع نموذجي سهرت طوال عقود على تناسله وتكراره، أن تدخل تلك الأنظمة في مساحة مراجعة لأدائها، يرى بعض منها أنه غير معنيّ بالمراحل وتحولاتها والمتغيرات التي تتطلّبها عن طيب خاطر أو من طريق الفرْض.

وفي ذلك كلام كثير وشواهد لا تُحصى من بينها أن الحجّاج (أبومحمد الحجاج بن يوسف الثقفي (41هـ - 95هـ) سياسي أموي وقائد عسكري ولد في الطائف بالحجاز ومتزوج من ابنة المهلب ابن أبي صفرة. لعب الحجاج دوراً كبيراً في تثبيت أركان الدولة الأموية. يُعدّ من الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ الإسلامي والعربي، عُرف بـ المبير؛ أي المبيد)، خطب يوماً فقال: «أيها الناس، إن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله، فقام له رجل فقال: ويحك يا حجاج، ما أصفق وجهك وأقل حياءك. فأمر به فحُبس، فلما نزل عن المنبر دعا به فقال: لقد اجترأت عليّ، فقال له: أتجترئ على الله فلا ننكره، ونجترئ عليك فتنكره؟».

كان ذلك في القرن التاسع للهجرة. في القرن العشرين علينا أن نذكّر بفتوى أحدهم التي كررها في أكثر من مناسبة وممن يكرّسون بفتاوى كتلك لأن تتحول المجاميع البشرية إلى مجاميع من قطيع: «ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة». ما هو البديل؟ هل تتم مخاطبتهم في المنام أم عبر عرائض تكتب بالحبر السري مادامت كل الأبواب مغلّقة إلا على الخواص ممن يزيّن ولا يعيب!

أعلم أنه سأم أن تُكرّر كتابة وعرض وجع وخلل لا ينتهيان في هكذا أوضاع. كأنك بذلك تمارس حالاً من استدراج نفسك إلى الاستهداف ممن لا قِبَل لهم بذلك. كأنك تقيم أذاناً في خَرِبَة لأنك لا تملك تذكرة الذهاب للأذان في مالطا!

كل شيء برسْم تحطّم كل ذرّة من طاقة الإنسان كي يكون تابعاً وجزءاً من القطيع؛ كي يكون منسجماً ومعتاداً؛ بل مدمناً على بيئة تصادر قيمته ولا تعترف بشبح حضوره ووجوده.

في البيئات الخانقة الإنسان مشغول بوضعيته في القطيع. الفكر تجرؤ على حقيقته الجديدة، والتجرؤ له معالجاته الخاصة في تلك البيئات!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3663 - الأحد 16 سبتمبر 2012م الموافق 29 شوال 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:21 ص

      اسمح لي ان اوجه كلمات للأخ هاني الفردان من زاويتك الخالية من التعليقات

      بينما الزعيم السوداني إسماعيل الأزهري يرفع علم استقلال السودان عام 56 سأله محمد المحجوب كيف ستحكم السودان قال انا لن احكم السودان ولكن سأحكم 25 مليون سياسي فيهم المعاق والعجوز والمجنون وغالبهم من الأميين والعاطلين والمرضى النفسيين ولكن جميعهم يضنون انهم سياسين لذا سألعب معهم لعبة السياسة هكذا يا اخي العزيز نحن نلعب السياسة فالجميع سياسيين حتى الذين لديهم تعليقات على مقالاتك ويكفي خيبة الأمل في جنيف عندما تم انتقاء 13 دولة على المقاس فمن يحشر من السياسة علم وفن

اقرأ ايضاً