العدد 3669 - السبت 22 سبتمبر 2012م الموافق 06 ذي القعدة 1433هـ

الثورة وسؤال اللاعنف

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

سألتني الأديبة والإعلامية نوال الحوار عن جدوى الحديث عن اللاعنف في ظل مجتمعات تنزلق إلى العنف بصورة مريعة، وتنفتح فيها شهيّة المتصارعين بلا حدود للإقصاء والإلغاء والإفناء، للآخر، الخصم، العدو. وأردفت: أين مكان اللاعنفيين في ما تطلق عليه «الربيع العربي» حيث تندلع الثورات، ومثالي هو سورية؟

وكان جوابي في برنامج «المشهد الثقافي» الذي تقدّمه، أن استمرار ظاهرة العنف ومن ثم العنف المضاد هما اللذان يجعلان من الدعوة للاعنف ضرورية بإلحاح، وخصوصاً أن ثقافة العنف هي السائدة، ويتطلّب الأمر تسليط الضوء على مخاطر العنف وردّ الفعل «العنفي» عليه في ثنوية لا تنتهي، كأنها مصارعة على الطريقة الرومانية، بحيث يتم القضاء على أحد المتصارعين، في حين يصل الثاني إلى حدود الموت أيضاً، وهكذا سوف لا يكون أحد منتصراً وهو يمارس لعبة العنف التي ستحرق الجميع دون استثناء. ثم من قال إن العنف ملازم للثورات بالمطلق؟ لنأخذ انتفاضة الحجارة الفلسطينية مثالاً، فقد اندلعت أواخر 1987 وامتدّت لأعوام، من دون أن تتمكن «إسرائيل» من القضاء عليها، على رغم محاولات استدراجها للانخراط في ردّ الفعل لمواجهة العنف بالعنف، في ظرف مختل ويميل فيه ميزان القوى لمصلحة الصهيونية، الأمر الذي لم تنجرّ إليه الانتفاضة آنذاك، حيث فوّتت الفرصة على «إسرائيل» لدمغ كل أعمال المقاومة وحق الدفاع عن النفس بالإرهاب. وقد ألقيت محاضرة، بدعوة كريمة من السفير الفلسطيني في براغ سميح عبدالفتاح، العام 1988 عن «الانتفاضة... بين السياسي والايديولوجي»، وعندما وصلت للحديث عن سمات الانتفاضة وخصائصها الجديدة ندّت همهمات من داخل القاعة، أقرب إلى الاعتراض أو الاحتجاج تتساءل عن مدى انطباق أطروحاتي مع تعاليم ماركس ولينين بشأن شروط الانتفاضة وقيادتها.. وأقدّر الوقع الجارح على الذين لم يستوعبوا المتغيّرات، فاستمروا يفسّرون الظواهر طبقاً لبعض القوالب الجاهزة والتعاليم النظرية التي عفا عليها الزمن، حتى وإن كانت تصلح لزمانها، خصوصاً أن معطيات مختلفة تبلورت بين هذه وتلك، فما بالك ونحن نتحدث عن فلسطين تحت الاحتلال، والأمر سيزداد تعقيداً في الوقت الحاضر بشأن قيادة الانتفاضة وأساليب كفاحها وتكتيكاتها وقواها المحرّكة ودور الشباب، وأهمية الإعلام تعبوياً وتنظيمياً في استمرارها، وهو الأمر الذي تفرضه العولمة بوجهيها المتوحّش والإيجابي، في ظلّ الثورة التقنية وتكنولوجيا الإعلام والاتصالات.

وإذا أردنا أن نتحدث عن حركة الاحتجاجات الواسعة التي انطلقت في الكثير من البلدان العربية وقادت إلى تغيير أنظمة الحكم فيها فلابدّ أن نأخذ المعطيات الجديدة في الاعتبار، تلك التي تجلّت خصوصاً في تونس ومصر، فقد كان الخيار هو اللاعنف والمقاومة السلمية المدنية، أما في ليبيا فقد انطلقت الحركة باعتبارها حركة سلمية ولا عنفية، لكنها تحوّلت لاحقاً كردّ فعل لعنف السلطات إلى عنف مقابل، ومن ثم تداخلها مع العنف الخارجي الذي قاده حلف الناتو، الأمر الذي ألحق أضراراً بالغة بقضية التطوّر السلمي المدني، وبالطبع اللاعنفي.

وفي اليمن، أجبرت الحركة الاحتجاجية اللاعنفية، الرئيس علي عبدالله صالح على التنحّي على رغم انتشار السلاح، حيث ساهم مجلس التعاون في إنجاح عملية اتفاق مضنية، لاتزال بحاجة إلى تأمين مستلزمات نجاحها واستمرارها، ولاسيّما أن هناك قلقاً لايزال قائماً من الصدام المسلح وانفلات العنف الذي قد يجرّ وراءه عنفاً لبعض دول الجوار.

وكانت الحركة الاحتجاجية السلمية لا عنفية في سورية، واستمرّت ستة أشهر تقريباً، لكن العنف الذي مارسته السلطات بقمعها، دفع بعض أطرافها إلى الاستعانة بالعنف للمواجهة، وهكذا يستمر العنف والعنف المضاد دون إمكانية التوصل إلى حلول سياسية ومقنعة، ويدفع الشعب الفاتورة عدّة مرات، في الأولى حيث يستمر قمعه وعدم الاستجابة لمطالبه السلمية، وفي الثانية حيث المجابهات المسلحة وتدمير البنى التحتية والمرافق الاقتصادية الحيوية وما بناه بسواعده وعرقه على مدى عقود، وفي الثالثة حيث يستمر الحصار الاقتصادي عليه مدمّراً نسيجه الاجتماعي، وفي المرّة الرابعة حيث تلوح في الأفق احتمالات استمرار الحرب الأهلية التي قد تؤدي إلى تفتيت البلاد وتشطيرها، دون التمكّن من حماية المدنيين وتأمين احترام حقوق الإنسان. وفي المرّة الخامسة ما سيتركه العنف على المجتمع من تأثيرات خطرة، ولعلّ التجربة العراقية خير مثال على انزلاق العنف وشموله فئات الشعب كافة.

ولهذه الأسباب يعدّ البعض أي حديث عن اللاعنف إنما هو أقرب إلى «البطر الفكري» أو محاولة لتجسيد بعض المثل العليا في بيئة لا تصلح لها، أو حتى يعدّه نوعاً من «الهذيان الفلسفي». لكن وقائع التاريخ البعيد والقريب فيها الكثير من الأمثلة للإجابة عن السؤال الذكي عن الثورة واللاعنف، ولنأخذ مثالين آخرين من منطقتنا بعد مثال ثورة الحجارة الفلسطينية. الأول هو نجاح الثورة الإيرانية في العام 1979 باللاعنف، بعد حركة احتجاج استمرت بضعة أشهر، وبعد تطوّر أساليب المقاومة اللاعنفية، حيث اضطرّ شاه إيران إلى الرحيل وأطيح بالنظام، والثاني هو الحركة الاحتجاجية الواسعة التي بدأت في لبنان في العام 2005 التي اضطرّت بعدها القوات السورية للانسحاب بعد وجود استمر 30 عاماً.

أما الأمثلة من خارج المنطقة فهي كثيرة أيضاً، حيث كانت لحظة انهيار جدار برلين العام 1989 إيذاناً بوضع حد فاصل بين مرحلتين، ونجحت ثورات أوروبا الشرقية جميعها تقريباً باللاعنف، عدا بعض استثناءاتها في رومانيا، أو فيما بعد خلال حروب يوغسلافيا وانقساماتها، أو عند تفكّك الاتحاد السوفياتي والحروب التي أعقبته، لكنها كانت ثورات لا عنفية بامتياز، وقد تحاقبت مع بعض التغييرات في أميركا اللاتينية بواسطة اللاعنف، وأحياناً كانت الثورة تمرّ عبر صندوق الاقتراع كما عكست الانتخابات في نيكاراغوا وفنزويلا وتشيلي والإكوادور والبرازيل.

ولعلّ هذا واحداً من التغييرات التي حصلت في مفهومنا للثورة، فهي ليست بالضرورة عملية عنفية، أو تشترط أن يكون وراء كل ثورة أو «نظرية ثورية»، كما كنّا نردّده لعقود، وقد كشف الواقع إمكانية «الانتصار باللاعنف»، كما انتصرت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، والحركة المناهضة للتمييز العنصري في جنوب إفريقيا، بل أصبح اليوم بإمكان قيادات ثورية شابة ومن خلال التواصل الاجتماعي، إنجاز مشروع الثورة، إذا ما توافّرت الشروط الموضوعية والذاتية لذلك، وانتفت الحاجة إلى ما سُمّي «العصبة الثورية» لقيادة العمل الانقلابي في جنح الظلام، والتخطيط له سراً وعبر أوكار حزبية، فالعالم تغيّر وأساليب الكفاح تطوّرت.

ومهما ارتبطت الثورات تاريخياً بالعنف باعتباره «قاطرة التاريخ» على حد تعبير ماركس، ومهما كان العنف متأصلاً في المجتمع، الاّ أن السلم والتطوّر التدريجي، يظلاّن الهدف المستمر لأي تغيير، وبهذا المعنى ستكون الثورة حالة مؤقتة، بل وحتى عابرة، وسيكون العنف «مؤقتاً» أيضاً، ولن تزدهر الحرية إلاّ بالسلم، وهكذا، فالثورة ليس بإعلان مجابهتها للأنظمة، ولكن بقدر استمرارها وتحقيقها أهدافها، ولاسيما الحرية والعدالة الاجتماعية.

وبهذا المعنى سيكون اختيار اللاعنف عملية خيار واعٍ لجوهر ومحتوى الحرية، باختصار الطريق للوصول إلى «مملكتها»، فانفلات العنف سيؤدي إلى التجاوز على القوانين والأنظمة، ويفتح الغرائز لشهيّة المتصارعين في استئصال أحدهم الآخر، وإذا كان العنف بالقانون «مقنناً»، فإن انفلاته مجتمعياً سيكون بلا حدود، وخطراً يهدّد السلام والحرية وقيم الثورة ذاتها وفلسفتها. وسيكون من أولى واجبات الثورة تقنين العنف وحصره بالدولة تحديداً لإمكانية تحقيق المساواة والعدالة والتنمية واحترام حقوق الإنسان. ويعرف غاندي بأنه مؤسس المقاومة السلمية (الساتياغراها) التي تقوم على ثلاثية الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وقد انتصر باللاعنف على أعتى إمبراطورية في العالم حينها، عبر الإضراب عن الطعام والمقاطعة والاعتصام وصولاً للعصيان المدني حتى تمكن من إلحاق الهزيمة بالاحتلال البريطاني وتحقيق الاستقلال. وأخيراً، يمكن القول إن اللاعنف لا يعني السلبية أو الضعف، وبحسب غاندي أنه أعظم قوّة متوافرة للبشرية. إنها أقوى سلاح صنعته براعة الإنسان.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 3669 - السبت 22 سبتمبر 2012م الموافق 06 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 10:54 ص

      ما لك صوت

      عجبا من الاستاذ عبدالحسين شعبان ما صدر منك اي تأيد ولا اي دعم للحراك السلمى البحريني....
      ليش ما سمعنا صوتك في نصرة الحراك السلمى ؟؟؟
      خير المقال ما صدقه الفعال

    • زائر 1 | 6:04 ص

      الكلام عن العنف واللاعنف تجاوزناه

      الموضوع الذي تطرق له الكاتب المحترم . لكنا الان في العنف واللاعنف تجاوزناه .. اصبحت الشعوب من كثرة انبطاحها .. باللاعنف والذل .. تبحث عن الخلاص وقد سئمت حكومات غير رشيدة وتكالب وهيمنة الدول المستعمرة قديما عليها ، ودولنا العربية معظم حكامها لم يأخذوا نصيبا من الثقافة والعلم والوطنية الا القشور

اقرأ ايضاً