العدد 3674 - الخميس 27 سبتمبر 2012م الموافق 11 ذي القعدة 1433هـ

الاستيطان

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

ثلاث قضايا أساسية ظلّت تشغل إسرائيل منذ قيامها في (15 مايو/ أيار 1948)، وتشكّل لها أرقًا دائمًا وهمًّا متصاعدًا، طيلة السنوات الستين والنيّف الماضية من عمرها. وهذه القضايا متداخلة ومترابطة ومتكاملة ولا يمكن فصل إحداها عن الأخرى.

القضية الأولى تتعلق بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم وتعويضهم عمّا لحق بهم من غبن وأضرار، وهو حق جماعي وفردي غير قابل للتصرّف أو التنازل أو الإنكار.

والقضية الثانية، تتعلق بالاستيطان باعتباره إحدى المسائل العقدية بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، وقد اتخذت بُعدًا تقسيميًّا وعنصريًّا، تشريعًا وممارسة، ولاسيما بتكريسه عند بناء جدار الفصل العنصري، علمًا بأن الاستيطان يشمل قرى وأحياء ومجمّعات سكنية كبيرة موزّعة في الأراضي العربية المحتلة، خلافًا لقواعد القانون الدولي وللاتفاقيات والمعاهدات الدولية، ولاسيما اتفاقيات جنيف للعام 1949 وملحقيها للعام 1977.

ولعل تأمين الحق في العودة وحل مشكلة المستوطنات يلتقيان، بل ويندرجان على نحو متفاعل ومترابط بالقضية الثالثة، وإن كان لهما خصوصيتهما، والمقصود بها حق تقرير المصير وبناء الدولة الوطنية المستقلة القابلة للحياة، تلك التي أعلنها المجلس الوطني الفلسطيني في مؤتمر الجزائر العام 1988 انسجامًا مع الحق القانوني الدولي الشرعي، المتمثل في تقرير المصير والانعتاق والاستقلال، واستنادًا إلى ميثاق الأمم المتحدة والإعلان الدولي لتصفية الكولونيالية رقم 1514 للعام 1960.

وتمثّل إشكالية قيام الدولة مع تأمين حق العودة ووقف الاستيطان والعودة إلى القرارات الدولية 181 و242 و338 وغيرها من القرارات، جوهر الحق الفلسطيني، وفي الوقت نفسه؛ بداية العدّ التنازلي لدولة «إسرائيل»حيث سيعني ذلك النكوص والارتكاس لمشروعها الاستيطاني التوسعي.

وإذا كان موضوع الدولة الفلسطينية المستقلة والقادرة على العيش أسوة بدول العالم، يسبّب قلقًا مستمرًّا لإسرائيل، فإن عاصمة هذه الدولة المنشودة «القدس» تبقى الأكثر ازعاجًا لها ولمشروعها الصهيوني، بل ولنظرياتها العنصرية الشوفينية، القائمة على الفكرة الإلهية المزعومة بالأرض الموعودة والحقوق التاريخية والعاصمة الأبدية، ولمسعاها بتحويل كيانها القائم إلى «دولة يهودية نقية»!

ومنذ أن أعلن أن الاحتفال بيوم القدس العالمي «آخر جمعة من شهر رمضان» وإسرائيل تزداد حنقًا واستفزازًا، لأنها تدرك ماذا سيعني ذلك ارتباطًا مع مفردات القضية الفلسطينية ومتفرعاتها الأخرى، مثل الحدود والمياه والمقاومة وغيرها.

والاستيطان الذي نحن بصدده كان مصدر اهتمام دولي باستمرار، وبسببه بالدرجة الأساسية، مع وجود أسباب إضافية أخرى بالطبع؛ حاولت «إسرائيل» الضغط على المجتمع الدولي بكل الوسائل ومعها الولايات المتحدة، للإقلاع عن فكرة تشكيل المحكمة الجنائية الدولية، التي تأسست بتوقيع ميثاق روما العام 1998.

وقد اعتبر هذا الميثاق الاستيطان «جريمة دولية»، وهو ما تذهب إليه الاتفاقيات الدولية وقواعد القانون الدولي، وعندما شعرت تل أبيب أن الأمر خرج عن السياق الذي تريده انضمّت ومعها واشنطن إلى الميثاق في اللحظات الأخيرة (قبل إغلاق باب التوقيع في 31 ديسمبر/ كانون الأول العام 2000) وحين وصل العدد المطلوب للتوقيع بدخول الاتفاقية حيّز التنفيذ في يوليو/تموز 2002، انسحبت «إسرائيل» ومعها الولايات المتحدة، بعد أن تركتا بعض بصماتهما عليه، ولاسيما بشأن مساءلة المرتكبين، وبخصوص الملاحقة ومدّتها.

وفي تقديري لا يوجد شيء يزعج «إسرائيل» مثلما هو موضوع الاستيطان لأنه يرتبط ويتداخل مع جوهر الصراع العربي الصهيوني.

وقد اتّخذ مجلس حقوق الإنسان الدولي عددًا من القرارات في (22 مارس/ آذار 2012) بشأن إدانة الاستيطان؛ الأمر الذي أثار عاصفة من الغضب في «إسرائيل» حيث ثارت ثائرة رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو الذي وصف مجلس حقوق الإنسان بسبب قراراته بخصوص الاستيطان بأنه «مجلس منافق».

وقال وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان منددًا بمجلس حقوق الإنسان «إنها هيئة منافقة تعتمد على لغة مزدوجة، وهدفها تلطيخ سمعتنا» ولم يتورّع الإسرائيليون بمختلف اتجاهاتهم السائدة عن اعتبار قرارات مجلس حقوق الإنسان بشأن الاستيطان منحازة إلى الفلسطينيين.

وتلك مفارقة حقيقية؛ فمنذ متى كان المتنفّذون في الوضع الدولي منحازين أو حتى محايدين إزاء حقوق الشعب العربي الفلسطيني؟ لكن القيم والقواعد التي يحتكم إليها المجلس، لا تجعله قادرًا على مخالفتها على رغم محاولات الضغط الكثيرة عليه.

لقد عبّر المجلس عن إدانته لإعلان إسرائيل المتكرر عن النية في الشروع في بناء وحدات سكنية جديدة في الضفة الفلسطينية وحول القدس الشرقية، وطالبها، باعتبارها «قوة احتلال»، بالتخلّي عن سياساتها الاستيطانية، ومنع أي «توطين» في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس والجولان السوري. ودعا القرار إلى احترام الالتزامات الدولية والعمل على منع العنف الذي يواجهه الفلسطينيون من جانب المستوطنين.

وأوصى المجلس بإيفاد لجنة لتقصي الحقائق إلى الأراضي الفلسطينية «المحتلة» كافة، بما فيها القدس، للتحقق من موضوع تداعيات إقامة المستوطنات على الحقوق المدنية والسياسية، إضافة إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وتفهم إسرائيل مغزى ودلالة هذه التوصية التي تصيب جوهر مشروعها في الصميم، وخصوصًا موضوع «نقاء الدولة» و»يهوديتها»، ولاسيما أن هذه التوصية تقوم على التنديد بفكرة الاستيطان وتدعو إلى التحقق من انعكاساته.

وبهذا المعنى؛ فإنها تشعر بالإحباط من هذا التوجه الدولي، وخصوصًا وهي تعمد منذ سنوات على إخراج فلسطينيّي القدس وضواحيها لجعل طابعها يهوديّاً، حيث سيكون كل الفلسطينيين خارج الجدار الموجود حول القدس من دون إقامة، أي أن إقامتهم ستلغى، وسيعتبرون غائبين بموجب قانون الغائبين للعام 1950 كما ستصادر أملاكهم.

وإذا كان هذا الأمر يتعلق بالحقوق المدنية والسياسية؛ فإن انعكاساته ستكون شاملة، وخصوصًا وقد وضع علامة شك كبيرة إزاء سياسات «إسرائيل» كلها، بما فيها محاولة إلغاء الطابع العربي عن القدس الشرقية وطمس المعالم الثقافية لعدد من المواقع في الضفة الغربية، في مسعى لتزوير التاريخ أو تحريفه، ولهذا السبب؛ فإنها رفضت التعاون مع البعثة الأممية.

وهناك جوانب أخرى لقرارات مجلس حقوق الإنسان؛ بعضها ذو طابع اقتصادي يتعلق بدور قوة الاحتلال المسئولة عن إدارة الإقليم المحتل، وهي واجبات لا تقوم بها إسرائيل، ناهيكم عن جانبها الإنساني، فضلاً عن الجانب السياسي لأنها تتعلق بحق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني، وهو حق ثابت له أسوة ببقية الشعوب، ولا يمكن لها مهما كانت الادعاءات أن تحول دون تنفيذه أو التنكر له.

أربعة قرارات اتّخذها المجلس لعل أهمها القرار «35.L//19/A.HRC» الذي تناولنا عرضه، وقد صوّت إلى جانبه 36 عضوًا (دولة) وصوّتت ضده الولايات المتحدة وحدها، وامتنعت عشر دول عن التصويت.

وكان القرار «34.L//19/A.HRC» قد اعتمد بغالبية 44 دولة وامتناع عضوين ومعارضة الولايات المتحدة وحدها، وهو الذي يعتبر جميع التدابير التي اتخذتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشريف تنتهك أحكام القانون الدولي وتتعارض مع قرارات مجلس الأمن ذات الصلة (وخصوصًا قراره الصادر العام 1980 بعدم الاعتراف بشرعية قرار الكنيست بضم القدس)، وطالب إسرائيل بوقف الاستيطان وتفكيكه وتعويض الفلسطينيين المتضررين.

وكان قد سبق هذا القرار قرار آخر برقم «33.L//19/A.HRC» دعا إلى احترام حق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني، في الحرية والعدالة والكرامة وإقامة دولة ديمقراطية مستقلة ذات سيادة. وقد اختص القرار رقم «36.L//19/A.HRC» بمتابعة توصيات لجنة تقصي الحقائق بعد العدوان على غزة «عملية الرصاص المصبوب».

إن جميع هذه القرارات تعتبر خطوات مهمة من جانب المجتمع الدولي نحو العدالة، الأمر الذي يحتاج إلى جهد عربي شعبي وحكومي، ولاسيما دبلوماسي وقانوني لمتابعة هذه القرارات والتوصيات التي اتخذها مجلس حقوق الإنسان بشأن الاستيطان.

ويذكّر ذلك بقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواسط السبعينات التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية وبحق تقرير المصير وأدانت في القرار 3379 الصادر في (10 نوفمبر/ تشرين الثاني 1975) الصهيونية باعتبارها «شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري»، وكان لهذا القرار صداه الذي وصل إلى مؤتمر ديربن حول العنصرية العام 2001 والذي استلهم منه إدانة الممارسات «الإسرائيلية» العنصرية.

وللأسف الشديد؛ فقد تعامل العرب مع هذه النجاحات والانتصارات على نحو سلبي أو قليل الشعور بالمسئولية ودون متابعة وحشد للجهود والإمكانات العربية المختلفة، ولاسيما الدبلوماسية والدولية منها، في حين أن كسب مثل هذه المعارك سيكون بداية للعدّ التنازلي الإسرائيلي.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 3674 - الخميس 27 سبتمبر 2012م الموافق 11 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً