العدد 3703 - الجمعة 26 أكتوبر 2012م الموافق 10 ذي الحجة 1433هـ

سورية ونخاعها الشوكي

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أصدر الرئيس السوري بشار الأسد مرسوماً تشريعيّاً يقضي بمنح عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. المرسوم ضمَّ ثماني عشرة مادة، يتفرَّع منها واحد وثلاثون بنداً. وعلى رغم الاستثناءات الثمانية التي تضمَّنها التشريع، فإنني لا أبغِي أن أكون عَدَمِيّاً، لأرفضه جملةً وتفصيلاً؛ وبالتالي نعتقد أن هذه الخطوة، تأتي كمروحة ضرورة، لإطفاء جزء من النار، التي تعيشها سورية، وتضع حدّاً للتصنيف والتخوين الرسمي ضد المعارضين.

لكن وعلى رغم كل ذلك، فإنني وكمراقب، أعتقد أن العلاج الحقيقي ليس في هذه النصوص والمراسيم قطعاً، وإنما في علاج ما يمكن أن أسمِّيه بـ «النخاع الشوكي للدولة السورية» الذي هو أصل المشكلة. فإذا ما عُولِج هذا الداء، فسيكون علاج غيره أيسر وأقل كلفة حتى.

وإذا ما عرفنا أن وظيفة النخاع الشوكي في الجسم؛ هو نقل التعليمات العصبية من المخ إلى جميع أطراف الجسم، كي تمنح العضلات أوامر المخ بالانقباض والانبساط؛ فإن الحالة السورية تبدو كذلك. فآفة الشام ليست في عدم إصدار العفو، أو في الانتخابات التي جَرَت، أو في إدخال جزء من المعارضة الداخلية التاريخية (الشيوعي قدْري جميل والقومي علي الشيخ حيدر)، ولا في تحرير الإعلام وتعديل الدستور، وإنما في الوعاء الذي يضمُّ كل تلك المظاهر المفترضة للدولة.

صحيح، أن شمول المعارضة بالتوزير، والتعديلات على القوانين وفكِّ القبضة على الإعلام هو أمر مهم في مسيرة التغيير، إلاَّ أن ذلك لا قيمة له إذا ما كانت القاطرة الحاملة لكل ذلك مثلَّمة وغير منبسطة. فذلك، إن حصل، فهو بمثابة الصوت العندليبي الصَّادِح بين الجَلِبَات، أو في أتون سوق الصفَّاريْن، حيث لا يسمعه أحد، ولا تتذوقه أذُن. وقد جرَّبت الأنظمة الرجعية في أوروبا مثل هذا النوع من الإصلاح المسيَّر على قاطرة عرجاء، إلاَّ أنها لم تتقدَّم خطوة ملموسة إلى الأمام، لأن المشكلة كانت في عدم تغيير البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في الدولة.

قبل عدة أيام، أجرَت قناة «الجزيرة» القطرية لقاءً مع رئيس الوزراء السوري السابق (والمنشق) رياض حجاب عن تجربته كمسئول داخل الدولة السورية. تحدث الرجل زهاء الساعة، لكن مَنْ استمع إليه أدرك أنه لا يعلم شيئاً عن خبايا الدولة التي كان يعمل فيها كمسئول كبير، بل إن غالبية ما ذكره كان يتحدث به الإعلام دون زيادة. وعندما سأله محاوره عن معنى منصب رئيس الوزراء في سورية بعدما هَالَه شُحُّ معلومات الرجل، أجابَ حجاب بأنه لا يعدو أكثر من أعلى وظيفة إدارية في سورية. وقد أصاب حجاب في ذلك، لأن ما لديه لا يتناسب سوى مع وظيفة إدارية لا أكثر.

فرئيس الوزراء، الذي لا يعلم عن أدق تفاصيل الحياة الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية في بلاده، والوزارات التي يرأس وزراءها؛ هو في الواقع رئيس «مُحَنَّط». والأكثر، أن ذلك يعني أن هذا البلد، يقوم على وعاء للحكم عَصِيٌّ على انسياب المؤسسات الطبيعية عليه، والسبب في ذلك أن جزءًا مهمّاً منه يقوم على السياجات العسكرية والأمنية والاستخباراتية، والمؤسسات غير المنظورة إلاِّ لذوي الحظوة، التي تتحكَّم في مفاصل الدولة بشكل تام، وليس الوزارات ووزراؤها.

أكثر الأشياء غرابة، أن شخصاً كخالد العبُّود، وهو مدير تحرير صحيفة «الوحدوي» السورية سابقاً، وعضو مجلس الشعب، لديه من أسرار الدولة السورية وخباياها أكثر من رئيس الوزراء! بل هو الذي سرَّب خبر محاولة اغتيال رياض حجاب عند مبنى مجلس الوزراء من قِبَل مسلحي المعارضة، والذي تعرَّض لها قبل انشقاقه، وهو الذي فصَّلَ كيفية اختيار حجاب لرئاسة مجلس الوزراء، والاجتماع السِّرِّي الذي عقِدَ بين اللواء الشعَّار ومحمد ناجي عطري حول صفقة القمح.

أكثر من ذلك، فعندما كان يتحدث في القناة الإخبارية السورية أو في قناة «الدنيا»، عن معركة حلب والأحياء الأحد عشر التي وَلَجَ إليها المسلحون، فإنه يقوم بتفصيل المشهد العسكري والأمني والاستخباراتي في حلب، بشكل غريب وعليم فعلاً، وكأنه من عظام رقبة النظام. كيف يستقيم هذا الأمر، بالمقارنة ما بين حجاب (رئيس وزراء) والعبُّود (نائب وصحافي)؟ السبب يجب أن يُفتَّش في الموقع الحقيقي لكلٍّ منهما في الدولة، بمؤسساتها المنظورة وغير المنظورة، والتي لا يطلع عليها إلاَّ المحظيّون.

لنا أن نتحدث بصراحة أكثر. فالرئيس السوري وقَّعَ مرسوم الدستور الجديد في (28 فبراير/ شباط 2012)، الذي ألغى فيه المادة الثامنة التي تجعل من حزب البعث متسيّداً للدولة والمجتمع، لصالح مادة جديدة تؤكد التعددية السياسية. لكن، وبعد تفجير مكتب الأمن القومي السوري الذي أودَى بحياة وزير الدفاع ونائبه ومعاون نائب رئيس الجمهورية ورئيس المكتب في الثامن عشر من يوليو/ تموز الماضي، تبيَّن أن البعث لايزال يُحكِم سيطرته على الدولة. فمقر المكتب هو ذاته أحد مقرات حزب البعث، وجزءٌ من المجتمعين هم أركان أساسيون في القيادة القِطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي! هذا الأمر مدعاة للتساؤل والتشكيك حتى في مديات الإصلاح المنظور.

نعم؛ نحن تحدّثنا بصراحةٍ قبل ذلك، عن خطورة عسكرة الثورة، والأخطاء التي فعلتها تنظيمات متطرفة، ليس لها سقف ولا هدف ثوري وسياسي سوى التحدث بخطاب طائفي مقيت يُدمِّر المجتمع السوري وسلمه الأهلي، لكن ذلك لا يعني أن نكرّر أخطاء شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». فالمعركة الحقيقية، هي كيف أتحوَّل بشكل حقيقي إلى دولة ديمقراطية مدنية سليمة، لا أن أمحو المادة الثامنة من الدستور حول «تبعيث» المجتمع والدولة، ثم يحقق البعثيون في المرحلة الانتقالية الأغلبية النيابية مرة أخرى، فهذا ما لا يقبله عقل أبداً.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3703 - الجمعة 26 أكتوبر 2012م الموافق 10 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 5:23 ص

      خيرا ما فعلت

      نتمنى من الحكومات الأخرى فعل هذا.

    • زائر 9 | 10:22 ص

      علي نور

      كوبا بقيت تحت حصار اقتصادي عسكري اربعين سنه ، لكن عمر رئيسها فيدل كاسترو بقي اطول من عمر الحصار، الشعب السوري له وعي وادراك سياسي كبيرين جعلاه يتكيف مع اوضاعه الاقتصادية الناتجة من الحرب واصطف مع نظامه بعد ان ادرك ان هاذا النظام رغم اخطاءه يتعرض لعدوان اليد الاسرائيلية فيه واضحة كالشمس في رابعة النهار ، فرجح هذه الشعب العظيم الوقوف مع بلده ونظامه على الوقوف مع اعدائه. اخيرا ..سوريا الى تغيير حقيقي قريب فلتطئن

    • زائر 8 | 10:18 ص

      علي نور

      المشكلة يا استاذ محمد ان البعض هنا لا يريد ان يعترف بهذه الحقيقة وهي ان النظام في سوريا يحظى بدعم الشعب السوري ، مشكلة هذا البعض لحد الان لم يفهم طبيعة الشعب السوري ، صحيح ان الشعب السوري في غالبيته فقير لكن الاصح انه ليس كغيره من الشعوب العربية ، الشعب السوري بغاليته يدعم نظام الاسد ، الشعب السوري شعب منتج وغيره من الشعوب مستهلكة ،وهي مساله مهمة جدا في تحديد قبول او رفض اي شعب لنظامه يتبع

    • زائر 7 | 10:17 ص

      علي نور

      فنظام صدام حكم العراق بالنخاع الشوكي ذاته لكنه حينما تداعى لصد عدوان التحالف عليه و ضرب الكيان الاسرائيلي بالصواريخ وثارت الجماهير العربية لنصرته من السودان حتى الخليج العربي لم يجد في شعبه من ينصره فانهى ممصيرة –بعكس ما توقع كل الخبراء الاستراتيجيين انذاك- الى حفره، وفي المقابل نظام مبارك سقط في ثمانية عشر يوما بجماهير عزلاء في التحرير ولم يشفع له دعم كل دول العالم التي وقفت معه ، بينما سوريه بنظامها بقيت صامده قويه (ياجبل ما يهزك ريح) ثمانية عشر شهرا رغم كل هذا التكالب العسكريعليها يتبع

    • زائر 6 | 10:13 ص

      علي نور

      المرسوم الذي اصدره الاسد يهدف لاجراء تحول ديمقراطي جوهري في النظام السوري وهذا التحول دونه عقبة كاداء هي الغرب الذي لن يوافق ابدا على اي اصلاح حقيقي ديمقراطي يطال اي دوله عربية وهذا من اسباب الحرب الدائرة على سوريا الان، ولو لا هذه الحرب لاصبحنا كلنا الان نتابع تحول ديمقراطي سوري ، حديثنا ليس هنا مقالك (كما في كل مقالاتك السابقة) تجاهل بيت القصيد للمسالة السورية بل هي (دون غيرها) هي النخاع الشوكي الشعب .. ان بقاء او زوال اي نظام مرهون فقد وفقط بقبول شعبه له ، لا بما اسميته " بالنخاع يتبع

    • زائر 5 | 4:51 ص

      الإخوان المسلمون

      فليتبرع لها الإخوان المسلمون بنخاع شوكي لكي تصبح عملية وفي نفس الوقت متطرفة ومقبولة

    • زائر 4 | 4:14 ص

      ربما أو قد يكون

      انصحك باستعمال ربما او قد يكون وإلا فإنك قد تكون ....

    • زائر 3 | 4:07 ص

      أنا معك

      أنا معك في علاج القضية من جذورها ..... . فهل تشاطرني رأيي ؟

    • زائر 1 | 1:29 ص

      ماهذا التحليل والتعليل يا رجل؟

      لقد حللت وفصلت وعرفت بمكان الداء ووصفت الدواء ولكن هل من مجبي؟

اقرأ ايضاً