العدد 3708 - الأربعاء 31 أكتوبر 2012م الموافق 15 ذي الحجة 1433هـ

الجحيم الماثل... الجنة الاصطناعية

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

يمكن لأيّ منا أن يُوْجد جنّته ولو كان في عمق ولبّ الجحيم. يمكن لأيّ منا أن يُوْجد جحيمه ولو أحيط بوهْم جنان لها أول في الحدود وتمتدّ بامتداد العذاب واليأس المستفحل، وممارسات نهب الإرادة، وانتزاع ما تبقّى فيها من روح؛ وبذلك لا نهايات لها.

ما الجحيم؟ يسأل أيّ منا. ليست ناراً مسجّرة تنتظر الذين أمعنوا في زعزعة استقرار الحياة، وكانوا عاملاً من عوامل انحطاطها واقترابها من حدود أن تكون نفاية؛ أو لاشيء يمكن التعرّف عليه وتمييزه؛ عدا الإنسان الذي هو موضوعها في أبعد وأشرس صور الاستهداف والتغييب والمحْو. هو أبعد من ذلك في استحقاق لمن آمن، وغياب لمن لم يؤمن. الجحيم ألاّ شيء يدلّ عليك. ألاّ شيء يشير إلى قيمتك. ألاّ شيء يؤكد أنك كنت هنا. كنت على سطح هذا الكوكب، وأحد رعاياه. أسأل ثانية: ما الجحيم؟ أن تكون مُسيّراً ومقوداً بالعذاب. أن تكون درس العدم. واختبار لظى سياسات قبل أن تكون لظى نار. أصعب اللظى وأكثره قدرة على محْوك ذلك الذي يتبدّى ويبرز لك في هيئة مجرى نهر؛ أو مجرى وهْم! أعلم ألاّ مجرى في لظى؛ ألاّ مجرى في وهْم؛ لكنها ضرورة اللجوء إلى المجاز في عالم محاصر بمجازاته الخاصة والمضطربة والعنصرية والمتقلّبة والتي يُراد تحويلها في أغلب الأحيان بحسب المرمى والهدف وما يُراد أن تُجيّر من أجله.

أسأل مرة ثالثة: ما الجحيم؟ أن يقوم أحدهم بالحديث والتنفّس وتدبير شئونك الصغيرة والكبيرة - وإن لم يفعل؛ فقط هو يوهمك بذلك. وتقدير وتقرير إلى أي الجهات تولّي شطرك، وإلى أي القناعات تهدف وترمي، وإلى أي معنى تتطلّع، وإلى أي فراغ وعبث تحنّ، وإلى أي عدم تودّ أن تصير.

أسأل مرة رابعة: ما الجحيم؟ ألاّ ترى ما حولك من جنّات الناس وأرواحهم واستعدادهم لأن يكونوا سداً ومانعاً لك، حين تنتهبك كائنات البراري التي لا عقال لها، وحين تتوهّم الاستحواذ عليك فصائل هي من البشر، ولكنها على الأرض بالفعل والقيمة دون ذلك بكثير.

ما الجنّة؟ أن تكون حاضراً بالقيمة والفعل والأثر والدور والمساهمة في كل التفاصيل من حولك؛ أو على أقل تقدير أن تكون جزءاً منها.

الجنّة: ألاّ تكون موضوع تمييز وتهميش وكراهية واستهداف وتطاول وإقصاء. الجنّة: أن تشعر بقدرتك وطاقتك على التغيير والإضافة. أن تُبهر من حولك ويُبهرك من حولك. أن تصبح مستعدّاً لأن تكون أشرس من أي كائن حين يفكّر أحدهم أنك مؤقت ولا داعي إلى الالتفات إليك؛ وحين يفعل أحدهم تجرؤاً، يكون قد نهب وصادر وتجاوز وقفز وتحايل بما يكفي لتدمير وإفلاس هذا الكوكب لأكثر من مليون مرة.

أسأل ثانية: ما الجنة؟ ألاّ تنسى الذي ساهم في أن يؤكد من أنت، وما هو شكل وهيئة العالم من دون حضورك وأثرك وفعلك. ألاّ تنسى أيضاً الذين لا شغْل لهم غير أن يطاردوك في اطمئنانك واستقرارك وتوجّهك إلى الحياة في الصورة التي تُحْسن ولا تسيء. ألاّ تنسى أنك هدف ومرمى لمن لا هدف له ويسيء لهدف الحياة. للذين لا هدف لهم في الحياة سوى تخريب ما يدلّ عليها!

أسأل ثالثة: ما الجنة؟ أن تكون بمنأى عمّا يسيء إلى روحك قبل جسدك. أن تكون قادراً على تجاوز الهراء انحيازاً إلى الحكمة والمعنى. ألاّ تكون طرفاً في فتنة تسيء إلى قدرتك على لمّ شمل ذي القيمة. ألاّ تكون مصاباً أو مهووساً بالاعتلاء على حساب غيرك. الاعتلاء على جثث وضحايا ومحرومين ومحاصرين في أكثر من شِعْب بعد أكثر الشعب تم فيه حصار وإبادة ونذالة موقف. شعب غابر مازالت ذاكرتنا محتفظة به، والتاريخ لا يؤجّر ذاكرته إلى أحد. التاريخ لا يعمل لدى بعضهم؛ وخصوصاً في هذا الزمن القادر بفضل حيوية سكّانه وقدرتهم على فضح كل ما يُظن أنه سريّ.

أسأل مرة رابعة: ما الجنة؟ ألاّ يتعامل معك أحدهم باعتبارك ضريراً تحتاج إلى عبور شارع مزدحم في منطقة مزدحمة بعض الساعة الثانية صباحاً حيث بعض الذين يجوزون ذلك الشارع قد أخذوا حصّتهم من التموين الذي لا يدع رأس أحدهم يميّز بين أمينة رزق ومحمود مرسي! وألاّ يتعامل معك أحدهم باعتبارك ناقص عقل ودين ولو كنت رجلاً!

في الجحيم الماثل اضطرابُ حياة. اضطراب إنسان في جهاته وأهدافه ومراميه وخياراته. في الجحيم الماثل قتلٌ وخنقٌ مع سبْق الإصرار والترصّد لكل ذي روح ومتحرك.

في الجحيم الماثل تحايلٌ على المقيم على حساب العابر وتحايلٌ على المضيء على حساب الغارق في العتمة وتحايلٌ على الماراثوني على حساب الذي بالكاد يستطيع تحريك عضو من أعضائه؛ عدا وهم أن يكون طرفاً في سباق اختراق الضاحية!

في الجحيم المصطنع أيضاً ذلك الذي سيأكل أطرافه وعمقه لن تتاح له فرصة أن يهيمن ويكون له موطئ قدم في عالم - في نهاية المطاف - مهما غفل أو تغافل أو سها لابد أن يعود إلى قاعدة رشْده وتصحيحه للشاذ، وإقامته للمائل بالممارسة رداً وبالفعل إفحاماً.

في الجنات الاصطناعية وهْم. فيها الموت مقيم، والجحيم أكثر من الحياة وما يدل عليها. في الجنات الاصطناعية غصص ويأس وإحباط، بالنظر إلى حقيقة ما يجري على الأرض من ممارسة ونظر وتعاط وتعامل. في الجنات الاصطناعية الكثير من زهق الأرواح بالمجّان والمزاج. الأرواح التي يتم التعامل معها باعتبارها فائض مرض مؤذٍ. في الجنات الاصطناعية عذابات لا حصر لها بأمل اصطناعي هو الآخر ومزعوم ولا أثر يدل عليه.

في الجنات الاصطناعية مزارع وهْم ثمرها الملح، ولن تكون - طال الزمن أم قصر - حقولاً مفتوحة على الروح ومعاسل في زمن كله مرارات.

تعبتْ أرواحنا في ظل هذه الخلاعة الاصطناعية بدءاً من الإيمان الاصطناعي؛ وليس انتهاء بتلقين الناس كيفية الانحياز والتعاطف وحب ما يهينهم وينال من كرامتهم ويعمّق غرباتهم.

تعبتْ أرواحنا من هذا الاصطناع الذي نتمنى أن يكون حقيقياً وعاطفياً كما نستحق ونحتاج إلى ندرة العاطفة من حولنا. لا شيء سوى الحديد والآلة التي لا عاطفة لها، سوى عاطفة محْونا. محْو كل أثر يدلّ علينا.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3708 - الأربعاء 31 أكتوبر 2012م الموافق 15 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 9:43 ص

      الطفيلي والمتسلق والفضولي والحسود...

      يااخي العزيز هؤلاء هم الجحيم ايضا لان يمنعون عنك النعمه والخير حتى قال الله تعالى في وصف الجنه وعن اللغو معرضون ويقولون سلاما اين السلام والسلم المعنوي هى الجنه.

اقرأ ايضاً