العدد 3710 - الجمعة 02 نوفمبر 2012م الموافق 17 ذي الحجة 1433هـ

وماذا عن أمراضنا النفسية؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عندما تعتلُّ أجسادنا نرى أماراتها على وجوهنا وأعضائنا. فإن رَشَحَت أنوفنا بان احمرارها، وإن ترمَّدَت أعيننا بان انتفاخها، وإن تقابلت أرجلنا مشياً بان حَنَفُها. لكن، إن أصِبْنا بالضَّجَر أو الألم داخل نفوسنا، فهل نستطيع أن نكتشف بعضنا؟ ثم ماذا نمتلك من الفراسة واليقين أو الربط إن وجدنا سلوكاً ما، يصدر من أحد، فنرجعه إلى أصل علمي، يخصُّ تعلُّل النفس وأزماتها.

نعم، فليس بالضرورة أن نكتشف ذلك، فإذا كان هناك بكاءٌ وتباكٍ، وضحك وتضاحك، ومرض وتمارض، فإن هناك مَنْ يقدر على أن يكتم سرَّه، ويخضع في كل الأمور ويخشع (كما يقول الشاعر) فيحتال على الرَّائي له، أنه صحيح النفس، لا يشكو من شيء في خَلَجَاته، مدعياً السكينة في نفسه، في الوقت الذي هو يتلوَّى من داخله، ويتجول في ذهنه أشياء قد لا تخطر على بال أحد.

بالتأكيد، فإن أمراض النفس قد تفيض فتخرج على فَلَتَات اللسان أو أسمال البدن وقسمات الوجه، لكن الأكيد أيضاً، أنه ومثلما للأمراض العضوية دَرَجَات، تبدأ من خدشٍ في الجلد، ولا تنتهي بالأمراض السرطانية، فإن الأمراض النفسية هي كذلك. فليس كلُّ عارض يصيب النفس، يعني أن صاحبه بُلهٌ أو معتوه، فهذه مع الأسف من مآسي مجتمعاتنا التي لا تميِّز في ذلك شيئاً.

هناك من الناس مَنْ هو مصاب بعارض نفسي، يناسب حجمه في الأمراض العضوية عارض الحمّى. وهناك مَنْ هو مصاب بحالة نفسية يتناسب حجمها وسرطان الرِّئة. وما بين المرضيْن مشوار كبير جداً، يجب أن لا يُختَزَل، وأن ينظَر له بطريقة علمية. فإذا كانت الأمراض بهذا التفصيل والفارق، فإن علاجاتها هو كذلك أيضاً. فالأمور يجب أن تخضع في جميعها للدراية.

المشكلة التي لا يدركها الكثيرون، أن مثل هذه الأمراض، هي ذات علاقة وثيقة بالعوامل الاجتماعية والبيولوجية وبالبيئة المحيطة بالإنسان. وما دمنا نعيش في مجتمع متعدد ومتدافع، ولدينا نَسَبٌ ممتد، وبيئة تتداخل فيها النقاوة والتلوث، ونعاني من أمراض عضوية مختلفة، فإن إصابة الفرد بعارض نفسي، يصبح أمراً طبيعياً، وغير شاذ، بل هو جزء من مسير الحياة الطويل.

الغرب ينظر للأمراض النفسية بنظرة تختلف عنا تماماً. هم يتعاملون معها على أنها لازمة أخرى من لوازم الحياة. لذا، ترى التردُّد على زيارة الأطباء النفسانيين بالنسبة لهم أمرٌ طبيعي، ليس فيه غضاضة أو خجل. وقد حدَّثني أحد الاستشاريين النفسانيين العرب، ممن عاشوا في إحدى الدول الغربية، أن وقت يومه كان يذهب في استقبال مَنْ يعانون من مشاكل نفسية بدرجات مختلفة.

وقد نشَرَت إحدى الدوريات مؤخراً خبراً مفاده، أن ثلاثمائة وخمسين مليون إنسان في العالم «من مختلف الأعمار»، يعانون من الاكتئاب. وقبل عاميْن، بيَّنت الدراسات، أن زهاء نصف مليار شخص يعانون من اضطرابات نفسية. وقد حدَّدت منظمة الصحة العالمية معالم الصحة العامة، على أنها «حالة من اكتمال السلامة بدنياً وعقلياً واجتماعياً، لا مجرّد انعدام المرض أو العجز». انتهى.

قبل أيام، اطلعت على بحث كَتَبته إحدى الاستشاريات الكبار في مجال علم النفس. والحقيقة أنه قد هالني حجم المعلومات التي تضمّنها ذلك البحث، وقد أدركت بعد إتمامه، بأن السَّواد الأعظم منا يفتقدون إلى تفسير العديد من الظواهر السلوكية، التي قد تحدث لأبنائهم وبناتهم في المنزل، أو للمعلمين في مدارسهم، أو لمن هم يسيرون حتى في الشوارع، ويلتقون بالناس دائماً.

الدراسة كانت تتحدث عن مشكلة «حالة فقد أحد الوالدين» عند الأطفال واليافعين. وهي تقسِّم ردَّات الفعل طبقاً للعمر. فمثلاً، الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين ثلاثة وخمسة أعوام، فإن حالة الفقد عادة ما تجعلهم ميَّالين للعراك مع الأخوان والأصدقاء، أو التبول اللاإرادي في الفراش أو مص الإصبع، والتحدث مع الشخص المتوفى والحديث معه وكأنه موجود.

أما الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين ست وثمان سنوات، فإنهم عادةً ما يعانون من ألم البطن أو الرأس، والانقطاع عن الأصدقاء أو العائلة والتشبث بالكبار، ورفض الذهاب للمدرسة. أما الذين تتراوح أعمارهم ما بين تسعة أعوام واثني عشر عاماً، فإنهم يكونون عدوانيين، وناقمين على الشخص المتوفَّى، والانعزال الاجتماعي، وتصيبهم مشاكل في النوم وكبت المشاعر والاهتمام بالصحة البدنية.

الملفت، أن الدراسة كانت تشير، إلى أن الذي يفقد أحد والديه وهو في سن المراهقة، فإن الأمارات التي تظهر عليه تبدو غريبة. فمثلاً، يتحوَّل إلى مهرِّج في الفصل الدراسي للفت الانتباه، أو أنه ينفجر بالبكاء في المدرسة، أو يُكثر من اهتمامه بحالة وصحة أفراد الأسرة والآخرين، كما يكرّر ترك الأصدقاء ليبحث له عن أصدقاء جُدد، والشعور بوجود الشخص المتوفَّى بطريقة ما حوله.

هذا الأمر جعلني أتساءل: كم هي المرات التي شاهدنا فيها مثل هذه الحالات ولم نستطع أن نفسّرها، بل وربما اعتبرناها شقاوة من ذلك الطفل، تحتاج إلى حزم وضرب!

أحد المعلِّمين، وعندما قرأ جزءًا من ذلك التحليل النفسي، جالَ بخلده ليستحضر نموذجاً تربوياً مرَّ عليه من أحد الطلاب، وهو المتعلق بالتهريج المستمر لذلك الطالب في الفصل، ثم رَبَطَ ذلك بالحقيقة الأسريَّة التي كان يمر بها ذلك الطالب وهي «الفقد»!

هذا الأمر ليس نافلةً في حياتنا بل هو حقيقة يجب أن يأخذ حيزاً من الاهتمام يتناسب مع مشكلته ودائه، وبالخصوص بالنسبة للمعلمين والتربويين.

بل هي ثقافةٌ عامةٌ، يجب أن تدرَّس أولوياتها على أقل تقدير في المراحل التعليمية الوسطى، كونها أشياء تلامس السلوك، ويدخل فيها جانب المراعاة والحذر؛ لأنها قد تودي بصاحبها إلى الدخول في متاهةٍ لا يخرج منها إلاَّ وهو جثة أحياناً، وبالتحديد في مسائل الاكتئاب، الذي دفع بكثيرين إلى الإقدام على الانتحار.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3710 - الجمعة 02 نوفمبر 2012م الموافق 17 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 7:16 ص

      منخوليا

      ايضافقدان المحبه وعدم اهتمام بالابناء مع وجود الابوين حتى يصيب الابناء مرض منخوليا لان يفقد الامل بالحياة وبالناس ويرى الحياة اما ابيض اواسودويكون محدود الفكر .

    • زائر 6 | 5:52 ص

      للاسف الاطباء النفسيين فاشلين

      يعطي حبوب مهداه حتى يصبح الواحد مرتبط بالحبوب ويصل لدرجة الهلوسه وثم الجنون الكامل

    • زائر 4 | 4:35 ص

      رب ارجعوني,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

      شكرا للكاتب المخضرم, وأيضا ما يزيد الهم هما ويبكي الثكالى دما ويستغلي في حقهم ذمما ويسقط عليهم من النيران حمما فيصيب من حيث يعلم قيما ,,,,,,, هو عندما نضيع البوصلة ونقطع الصلة ونترك الأحداث للمقصلة, فنكون قد فرطنا في نعمة القلم بل وخزنا به الجرح والألم ونتتركك وربك ومن قد ظلم, ,,,,,, فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان وهل جزاء الألم إلا القلم? ?!!! 

    • زائر 3 | 4:07 ص

      علي نور

      مقال رائع جدا وتسلم عليه .. والموصوع هام جدا وحري بالمعنيين وخصوصا في وزارة التربية والتعليم اعطاه اهتمام وتشكيل هيئة لدراسة الحالات السلوكية لدى طلاب المدارس ..
      تحياتي لك

    • زائر 2 | 12:30 ص

      شكرا

      تسلم على هالموضوع

    • زائر 1 | 11:53 م

      اتهام بالجنون

      موضوع حساس لكنه مستشري في مجتمعنا . الكثير من الناس يحتاج إلى زيارة طبيب نفسي ولكن يخشى ان يقولوا عنه انه مجنون!!!

اقرأ ايضاً