العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

مهما كانت السباب: مرحبا "بالجزيرة"

قناة الجزيرة القطرية بدأت وكأنها حادثة عابرة راهن الكثير على أهدافها السياسية والأسباب التي دفعتها للظهور. قناة الجزيرة اليوم أصبحت ظاهرة اخترقت مجالين محتكرين من قبل. المجال الأول هو سيطرة الرقيب العربي الرسمي على كل حرف يكتب أو كلمى تنطلق في بلادنا العربية. المجال الثاني الذي اخترقته هو سيطرة وسائل الإعلام الدولية الكبرى (مثل الـ BBC والـ CNN) على السبق الصحافي والتغطية الجادة. فعندما هاجمت الولايات المتحدة وبريطانيا العراق قبيل شهر رمضان كانت شبكة الـ CNN الأميركية تعتمد على الجزيرة أثناء تغطية جزء من الحدث الدرامي. وأصبح المواطن العربي يصر على مشاهدة الجزيرة كإصراره على الاستماع للـ BBC، لأنه يتوقع أن تعطيه الجزيرة وجهات النظر المختلفة حول الموضوع المطروح.

القناة القطرية طرحت تحديا كبيرا أمام أجهزة الإعلام العربية التي رفضت قبول هذه القناة لعضوية اتحاد التلفزيونات العربية، بل أن هناك عدة مشاريع قيد الدراسة والتنفيذ لمواجهة قناة الجزيرة القطرية.

ولكي لا يفهم أحد القراء خطأ، فإني سوف أعرض وجهة نظر ناقدة للقناة القطرية. فهناك من يطرح بأن قناة الجزيرة لها أغراض سياسية محددة تسعى لتحقيقها من خلال فتح المجال أمام حرية الإعلام. فحكومة قطر ليست لديها مشاكل مع شعبها كما هو الحال مع حكومات أخرى، وإنها تكسب موقعا سياسيا لدى العرب والخليجيين مما يوفر دعما معنويا تحتاجه الحكومة القطرية لمواجهات التحديات الإقليمية.

مهما كانت الأسباب، ومهما قيل عن الغايات فإن المواطن العربي أصبح يجد دقات قلبه مع كل ساعة من ساعات البث في قناة الجزيرة. كنت أحاور أحد الأشخاص حول هذا الموضوع، واستندت في دفاعي على سوأ الاحتمالات، وهو أن يكون هناك سبب سياسي وليس قناعة فكرية تدفع قناة "الجزيرة" للسماح بحرية الصحافة والفكر والكلمة. استندت إلى ما حصل في بريطانيا في القرن السادس عشر.

ففي القرن السادس عشر، كان الملك هنري الثامن يريد وليا للعهد ولم يكن يحصل على ذلك من زوجته. ولهذا عزم على الزواج من امرأة أخرى، إلا أن البابا عارض ذلك لأنه يخالف تعالين الكنيسة الكاثوليكية. الكنيسة المسيحية الكاثوليكية (الكاثوليكية كلمة تعني العالمية) كانت تشترط موافقتها على كل ملك وكل أمير وكل كتاب وكل كلمة وكل شيء، لكي يحصل على رضا الرب بواسطة الكنيسة العالمية. في تلك الفترة كانت هناك حركة دينية إصلاحية تعارض سيطرة الكنيسة العالمية على شئون البلاد والعباد باسم الرب، وتفرض حالة من الحرمات السياسي والقهر. الذين عارضوا الكنيسة الكاثوليكية كانوا يتواجدون في بلدان أوروبية أخرى – غير بريطانيا – وهم الذين طرحوا الأفكار المسيحية الاعتراضية (البروتستانت).

أما الملك هنري الثامن، فلم يكن مفكرا ولم يكن ممن رفعوا راية الإصلاح الديني من منطلق فكري، إلا أنه، وبسبب رغبته في الزواج من امرأة أخرى، اتخذ خطوة عملية وحاسمة وحقق ما كان يحلم به دعاة الإصلاح الديني، إذ قام يفضل الكنيسة في انكلترا (الكنيسة الانجليكانية) عن الكنيسة العالمية (الكاثوليكية) التي يسيطر عليها البابا. ولم يكتف بفصلها، وإنما أعلن نفسه رئيسا للكنيسة، وبهذا جمع السلطان الديني والدنيوي في حدود انكلترا. ثم سمح لنفسه بأن يتزوج عدة نساء (قام بإعدام عدد منهن أيضا لأسباب مختلفة، منها الخيانة الزوجية)، إلى أن حصل على ولي عهد من أحدهن.

الإجراء الحاسم الذي قام به الملك هنري الثامن دشن عهدا جديدا في انكلترا، إذ مهد لمجيء حكم يؤمن بكل شيء لا تؤمن به الكنيسة الكاثوليكية ومن أهم الأشياء التي تأسست في بريطانيا هي حرية التعبير عن الرأي، إلى الدرجة التي صدر قانون في العام 1695 م ينص على حرية التعبير عن الرأي.

في مطلع القرن السادس عشر، عندما كان هنري الثامن على سدة الحكم لم تكن انكلترا دولة ذات شأن ولم يكن لديها أي احترام من الدول العظمى في تلك الفترة (فرنسا وأسبانيا)، إلا أنه وبسبب حرية التعبير عن الرأي، وبسبب الانفتاح السياسي التدريجي فإن بريطانيا استطاعت أن تستقطب العلم والعلماء، ولهذا ظهر كبار العلماء في مختلف المجالات في بريطانيا، واستطاعت بريطانيا أن تستعين بالعقول للظهور على ساحة الأحداث والانتصار على خصومها.

وأثبتت بريطانيا أن صغر الحجم (مقارنة مع الآخرين) لا يمنعها من امتلاك العقل الذي يمكنها من المحافظة على نفسها، بل وتأسيس عظمتها.

فليكن السبب أي شيء، المهم أن يستطيع المواطن العربي أن يعبر عن نفسه وأن يصدق ما يسمع ولو لمرة واحدة. القناة القطرية طرحت التحدي أمام بقية التلفزيونات العربية التي ستجد التحالف ضد حرية الكلمة مكلفا، ولن يكون هناك سبيل أمامها ألا السماح بالانفتاح السياسي الذي لا يكلف الحكم استقراره.

لا شك أن القلم العربي لازال أسيرا لظروفه، والرأي العربي لا زال خانقا من الرقيب ولهذا فقد يلجأ إلى "التطرف" لمواجهة الكبت، لقد أصبح الرقيب ممقوتا وعاجزا عن أداء دوره في عصر الانترنت وثورة الاتصالات والرقيب العقلاني هو الذي يسمح ولا يمنع. والسماح بحرية الكلمة من خاص لا يحصل عليه إلا من استطاع الخروج عن الأسلوب التقليدي في الحكم.

والذين خرجوا عن الأسلوب التقليدي قليلون – عندما نسترجع تاريخ الدول الأوروبية. تلك الدول التي عجزت عن الخروج من الأسلوب التقليدي انتهت، ولم يبق منها سوى الحكم الذي سمح (بصورة تدريجية) بحرية التعبير عن الرأي.

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً