العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

حاسبو أنفسكم قبل أن تحاسبوا!

يعتقد البعض أن هناك أمما محظوظة وأخرى كتبت لها التعاسة. وأصحاب هذه المدرسة منتشرون في شتى المجالات في بلداننا. فما عسى أن يتحدث أحد عن ضرورة رأي الشعب، أو محاسبة حاكم أو مسئول كبيرا أو صغير أو حتى فراش، وإذا بالجواب الجاهز من حكوميين وعاديين وبعض الأحيان معارضين: "أن مجتمعاتنا مختلفة".. أو "أن مجتمعاتنا تختلف ولا يمكن أن تطرح مثل هذه المسائل". ولكن الأمر ليس كذلك عندما ننظر إلى تجارب البلدان المسماة النامية والمتقدمة. فمثلاً، في بريطانيا التي يقول البعض أنها أقدم ديمقراطية حديثة في عالم اليوم، سرعان ما نرى أحد السياسيين أو الإداريين قد انزلق باتجاه الرشوة والفساد، تماما كما ينزلق المسئول في البلدان غير النامية.

الفرق بين ما يحدث في مجتمع مثل بريطانيا، أن مثل هذه الأمور تواجه باستمرار ولان البشر هم البشر، يجنحون للأخلاق الفاسدة متى ما وجدوا طريقا لذلك. وقد نتج عن انفضاح أمر بعض أعضاء البرلمان البريطانيين الذين قبلوا باستلام رشاوى أن عين رئيس الوزراء البريطاني السابق لجنة للتحقيق في الأمر. وأطلق على هذه اللجنة اسم لجنة "نولان" نسبى لاسم رئيسها.

وقد طرحت اللجنة تقريرا مفصلا أبدت رأيها تجاه كل شخص ادعى انه استلم أو عمل لمصلحة خاصة أثناء ممارسة مهنة في البرلمان. وقد حددت اللجنة سبعة مبادئ لاختيار تصرفات الأشخاص وهي كما يلي:

المبدأ الأول الذي طرحته لجنة "نولان" هو انعدام المصلحة الشخصية، بمعنى أن الذي يستلم مسئولية عامة في الدولة عليه أن يتخذ قرارات من أجل خدمة المجتمع وليس ذاته أو أقاربه أو أتباعه. ودليل ذلك أن لا يستلم أي ربح مادي من أي قرار أو نشاط يقوم به شخصيا.

والمبدأ الثاني الاستقامة بمعنى أن لا يجعل الشخص نفسه عرضة لضغوط مادية من شخصيات وجماعات من شأنها أن تؤثر على قرارات ونشاطاته أثناء تأدية واجبه العام.

والمبدأ الثالث الموضوعية، وهي التزام المسئول أو عضو البرلمان أثناء قيامه بالتعيين أو منح الصفقات لأشخاص ومنظمات بالخصائص والميزات المحايدة والموضوعية دون أي اعتبار لمحسوبية أو منسوبية.

والمبدأ الرابع المحاسبة، وهذا يعني أن أي نشاط أو قرار يقوم به المسئول لابد وان يوثق بطريقة سليمة ويكون جاهزا للتدقيق والمحاسبة والمسائلة الدستورية.

والمبدأ الخامس الانفتاح والشفافية بمعنى أن على المسئول أن يكون مستعدا لتوضيح الأسباب وتوفير المعلومات الكافية لتفسير خلفية القرار والنشاط وتبرير القيام به.

والمبدأ السادس هو الأمانة ودليل ذلك قيام المسئول أو عضو البرلمان بتمحيص قراراته وأنشطته وأبعادها عن مصالحة الخاصة عندما تتعارض مهامه العامة مع حياته الشخصية.

والمبدأ السابع هو القيادة وتقديم المثال الحي من خلال ممارسة جميع الأنشطة بريادية وبالتزام ذاتي واضح بالمبادئ المذكورة.

هذا الحديث ليس خاصا بمجتمع دون آخر فالنوعية الإنسانية هي ذاتها متوفرة في كل زمان ومكان. ويعتمد النشاط العام على الثقافة المتداولة والمسموح بها، والممارسة عمليا. وفوق ذلك الاستمرار في المحاسبة والصرامة تجاه الفساد الذي يحاول أن يدخل النفس البشرية متى تمكن من ذلك. ا ناي دولة حديثة تعتمد على موظفين في الخدمة المدنية لتسيير شئون المجتمع. وهذه الخدمة المدنية تحميها الخدمة العسكرية التي توفر الأمن لحدود الدولة والمجتمع. وهناك جزء من الخدمة المدنية يتعلق برعاية الأمن الداخلي، ويعتمد على الأجهزة العلنية والسرية.

في المجتمعات المتحضرة إنسانيا تكون جميع الخدمات المدنية والعسكرية والسرية تحت أمرة الكادر السياسي المنتخب شعبيا. وبالتالي فإن خدمات الدولة جميعها تكون، من الناحية المبدأية، في خدمة نواب الشعب وتحت مسئولية الخاضعين للمحاسبة الشعبية والانتخاب الحر القائم على أساس دستوري.

تدخل بعض الدوائر في بلداننا وترى الوزير والمدير يخاف من شخص لا يبدو عليه الذكاء ويعمل موظفا صغيرا في إحدى غرف تلك الدائرة. في هذه الحالة يكون العاملون في الخدمة السرية يسيطرون على الخدمة المدنية العلنية وبالتالي على الشعب. والخدمة المدنية في هذه الحالة تكون أداة للغط على المجتمع بدلا من التعبير عن إرادته. وتتطور الحالة إلى أكثر من ذلك عندما تصبح هذه الخدمات متداخلة وخاضعة لأحد الإداريين أو العسكريين الذين يكتبون القانون وينشرونه وما على المجتمع إلا الانصياع له دون نقاش. وقد تطور المستبدون كثيرا إلى الدرجة التي أصبح بإمكانهم أن يحصلوا على 66 في المئة من أصوات الشعب دون الحاجة إلى الرجوع للشعب نفسه. والأغرب من ذلك هو أن هؤلاء يدعون أنهم ملتزمون بحكم القانون وحفظ الأمن والاستقرار. ولكن أي قانون هذا؟

أن حكم القانون المقصود في الدول المحكومة بطريقة مطلقة هو ذلك القانون العشوائي الذي يصدر دون الرجوع لمجلس تشريعي أو هيئة دستورية ويتم تنفيذه بحسم دون ضوابط قضائية. وهذا يعني أن قانون أختلف تعريفه. فالقانون في هذه الحالة هو ما يعمله ويقرره الحاكم الإداري أو العسكري. والناتج عن ذلك متشابه في كل زمان ومكان: سرقات، رشاوي، سجون، تعذيب، نفي، حرمات، تخلخل اقتصادي، تجويع، عدم استقرار، الخ. والأسوأ من ذلك مجموعة من هذه الظاهر في آن واحد.

وإذا كانت النتيجة هكذا، هل يعقل أن يتجرأ أحدهم ليقول أن المحاسبة الشعبية ليست من عاداتنا وتقاليدنا؟ فهل من تقاليدنا استشراء الفساد؟ وهل من عادتنا احتقار العباد؟ وهل من تراثنا أن نتوالد من أجل أن نموت من الشبع أو من الموت دون أن نحيا حياة حرة وكريمة؟

ألم يقل لنا تراثنا: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا؟

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً