العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

خذني إلى الهايد بارك

في نهاية السبعينات (1979) حطت قدماي أول مرة لندن في يوم قارس. لم تسعفني ثيابي التي كنت لبستها في بلد يختلف في الطقس وفي كل شيء عن بريطانيا. رغم أنني كنت أرتجف إلا أن مخيلتي بدأت في كتابة أول رسالة لأصدقائي لكي أخبرهم عما رأيت في لندن.

ماذا سأقول لهم عن عظمة ساعة (البيج بن) وعن الهايد بارك؟ وأسئلة أخرى أجبت عليها نفسيا قبل أن أراها على الطبيعة. لم يمض اليوم الأول دون الإلحاح على أحد الأصدقاء أن يأخذني في دورة سياحية لكي أكمل رسالتي.

ماذا تريد من "بيج بن"؟؟ سألني صاحبي. لا أعرف، ولكني أريد رؤيتها وسماع دقاتها كما كنت أسمعها في راديو لندن (أو كما كنت أتصور أني أسمعها).

وهكذا بدأت دورة السياحة في سيارة أحد الأصدقاء الذي كان يسوق بمهارة فائقة ولكنني كنت أشعر أن روحي ستزهق كلما أدار السيارة يمنة أو يسرة، ذلك لأنني تعودت على رؤية ومعاشرة السياقة على الجانب الآخر من الطريق. ولكن المفاجأة كانت ساعة "البيج بن" نفسها – بناء حجري أسود اللون (تم تنظيفها قبل عدة سنوات لاستخراج اللون الحجري البني) وترتقي ساعة كبيرة أعلى ذلك البنيان. أين هي البيج بن؟ أجابني صديقي: تلك هي... أخذ الكاميرا وصور ما شئت.

منذ تلك الصدمة وأنا أحاول تفهم ما هي ملامح بريطانيا العظمى وكيف استطاعت هذه الدولة الصغيرة السيطرة على أجزاء كبيرة من العالم لفترات طويلة؟ وما الذي يميزها عن غيرها؟

تذكرت كل لك قبل أسبوعين عندما طلب قادم جديد إلى لندن أن آخذه في دورة سياحية. وبما أنني لم أتسيح منذ مدة أصطحبت صاحبنا إلى المعالم الرئيسية وانتهيت به إلى خط غرينتش، الخط الوهمي الذي يحدد الساعة "صفر" للوقت العالمي. هذا هو خط غرينتش، أشرت إلى صاحبي.

وعلى أي أساس اختير هذا المكان ليحدد الصفر؟ ولماذا تؤشر لنا لائحة لتقول هنا "غرب الخط الطولي" و"هنا شرق الخط الطولي"؟ وكيف تعتبر الشرق والغرب بخطوة واحدة؟ لم أجد جوابا لصاحبي سوى قصة الرجل الذي ربط حمارته في شجرة ليأخذ قسطا من الراحة. ولكن نومه لم يستمر طويلا عندما أزعجه بعض "المثقفين جداً" يتباحثون فيما بينهم حول "مركز العالم" وأين يقع ذلك المركز. أنتبه الرجل من نومه منزعجا طالبا منهم الهدوء لكي ينام. فردوا عليه:

لا شان لك فنحن نتحدث في موضوع فلسفي عميق حول مركز العالم وأين يقع... التفت الرجل الذي كان نائما، وقال: "هنا يقع مركز العالم"، مؤشرا على المكان الذي ربط فيه حبل حمارته. سألوه "ما هو دليلك على ذلك"؟

وأتى الجواب بسرعة، ودون تردد "وما هو دليلكما على أنه ليس مركز العالم؟".

وجوابي لصاحبي الذي أخذته في جولة سياسية هو أن البريطانيين، وأي قوة أخرى تمتلك قوة مشابهة في زمان ما، فأن لها أن تحدد "نقطة الصفر" أو مركز العالم كما يناسبها من الناحية العملية ، تماما كما فعل الرجل في القصة المذكورة.

بريطانيا وملامحها ليست واضحة بسهولة. فكل شيء في بريطانيا يخضع لعادات وتقاليد تطورت مع الزمن ولكن شكلياتها تبقى لتذكر البريطانيين بأمجادهم! بريطانيا ليس لها دستور مكتوب لا حاجة لذلك، يجيبك المحافظون على التقاليد. لأن البرلمان والقوانين الصادرة منه هي التي تحدد طبيعة الدستور.

وبطبيعة الحال فالمقصود من البرلمان هو بالأساس مجلس "العموم" نعم عموم الشعب الذي يتضمن الحكومة ويسيطر فيه الحزب الحاكم على كل القرارات الحكومية. أما مجلس "اللوردات" المعين فإنه "مشارك للسيادة مع الملكية"، ولكنه حاليا – والملكية ايضا - يخضعان لإرادة أعضاء "مجلس عموم" المجتمع البريطاني المنتخبين.

يبدو لك ايضا انه لا يوجد فاصل بين السلطات الثلاث في بريطانيا، فالحكومة هي جزء من مجلس العموم وقاضي القضاة عضو في مجلس الوزراء. رغم ذلك، فإن القضاء والمراقبة التشريعية منفصلتان "بصورة عملية"، والقضاء له استقلاليته التامة، إلى الدرجة التي يتحدى فيها الحكومة في قضايا حساسة، وشاهد ذلك عجز حكومة المحافظين عن أبعاد الدكتور محمد المسعري عن الأراضي البريطانية.

الصحافة لا ترحم أي عضو في الحكومة أو البرلمان، ولا توجد وزارة إعلام ولا توجد رقابة. فقانون منع الرقابة يزيد عمره على أربعة قرون. ولهذا كان مفكرو الثورة الفرنسية قبل قرنين ينشرون كتبهم في لندن، وكان ماركس وانجلز في لندن ينظران للاشتراكية، ولهذا أصبحت لندن مركزا للصحافة العربية بعد أن عجزت عواصم البلدان العربية عن السماح لحرية الكلمة بالانطلاق.

ملامح بريطانيا كثيرة. فهي البلد الذي ليس له "يوم وطني". فبريطانيا - ولأف سنة مضت - لم يتم استعمارها أو احتلالها خلال القرون الوسطي أو العصر الحديث. وعندما ثار شعبها ضد الملك المستبد تشارلز الأول في القرن السادس عشر واحتز رأسه بعد ذلك، عاود الشعب حنينه للملكية واستورد عائلة مالكه من أوروبا ووضعها على العرش وأشترط عليها عدم التعرض لممثلي الشعب.

البريطاني "التقليدي" شخص منتظم في حياته، يستيقظ في وقت محدد ويخرج إلى العمل في وقت محدد أخر ويعود إلى المنزل في الوقت المعين لبدء أمسيته بنمط تلقائي.

وللتنفيس عن هذه الرتابة رزقهم الله طقسا متقلبا... و"برلمانا مزعجا" تعتبر جلساته من أكثر الحوارات التي يعلو فيها الضجيج وتلقى الخطب والطرائف التي تسهل لهم بأعجوبة تسيير دفة شئون الحكم. فما أن يعلن وزير المالية عن الميزانية السنوية ويحدد فيها أسعار بعض السلع (مثل السجائر) والضرائب وغيرها، وإذا بالمجتمع البريطاني (المعارض والموافق) يمتثل كل واحد منهم بما قرر بعد دقائق قليلة من انتهاء المناقشة حول الميزانية السنوية وإقرارها.

الدولة علمانية وتمنع على رجل دين (أو أحد أفراد العائلة المالكة) دخول "مجلس العموم" – إلا إذا كان منتخبا طبعا.

ولكنها أيضا تخصص مقاعد لرجال الكنيسة الإنجيلية في مجلس اللوردات (وليس مجلس العموم المخصص فقط للمنتخبين). قوانينها متداخلة ومعقدة وتخضع في كثير من الأحيان إلى رأي المحكمة التي نحدد ما إذا كانت هناك سابقة معينة أو أنها تؤسس سابقة جديدة تأخذ قوة القانون.

حاولت أكمال القصص البريطانية الأخرى لصاحبي لكنه قال لي: أن أفضل شيء هنا هو الهايد بارك، خذني له لو سمحت!

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً