العدد 3722 - الأربعاء 14 نوفمبر 2012م الموافق 29 ذي الحجة 1433هـ

الأمِّيَّة السياسية

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كثيرون هم، مَنْ يقلقهم موضوع أميَّة البشر في القراءة والكتابة. هم يعتقدون (وهذا الاعتقاد صحيح) أن الأمِّي، هو أساساً عَالة على نفسه ومجتمعه. فهو غير مدرك للكثير من الأشياء التي يتوجَّب عليه التعامل معها يومياً وبشكل عقلاني. لذلك، فإن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، قد خصَّصت يوماً لمكافحة الأميَّة، ودَعَمَت برامج محو الأميَّة في أزيد من مئة بَلَد حول العالم. وهكذا فعلت العديد من الدول، بوضعها العلاجات المختلفة لها.

والحقيقة، أن مصطلح الأميَّة ليس محصوراً في القراءة والكتابة كما أشرنا، بل يمكن استخدامه في عناوين أخرى، كالأميَّة الوظيفية، التي تعني أن الإنسان يستطيع القراءة والكتابة، لكنه غير قادر على توظيف ما يقرأه ويكتبه للتعامل مع الآخرين بالصورة السليمة. وهناك أيضاً ما يُمكن أن نسمِّيه بـ «الأميَّة السياسية»، وما نعنيه بالأميَّة السياسية هو عدم القدرة على قراءة الأحداث ومسبباتها وما يربطها بشكل صحيح، ثم فقدان التوصيف السليم للفعل وارتداداته.

والحقيقة، أن ذلك النوع من الأميَّة «أي السياسية» أنها مزيج معقد ومركَّب ما بين الأميَّتيْن «القرائية/ الكتابية والوظيفية. ففي أحيان كثيرة يقرأ أحدنا الخبر الصحافي كوحدة نصيَّة مستقلة لا أصل لها (باعتباره غير متابع للأحداث الجارية نتيجة التجهيل والإشغال المتعمَّد من السلطة) ولا نتيجة (كونه فاقداً للمقدَّمة أصلاً) وبالتالي تراه يجول بالنص الخبري المذكور، دون أن يهتدي إلى أين يضعه، وفي أي مقاس يمكن أن يُسربله، فضلاً عن القدرة على تحديد ما يلزم فعله.

وعندما يضيع لدى أيّ فرد منا، المنتظم التاريخي للأحداث، ومسبباتها وارتباطاتها ومن ثم الفشل في استشراف ما ستؤول إليه تلك الأحداث، فإننا نعجز عن توظيف ذلك بشكل تام. وربما يدفعنا إلى ما هو أبعد من ذلك، حين ترمينا في أتون صراع سياسي أو اجتماعي، لا ندري لماذا نحن فيه، وعمَّن نحن ندافع، وكيف انتهى بنا الأمر إليه، وكأننا أناس فاقدون للذاكرة، ونحتاج إلى علاج يعيد إلينا ما فقدناه من أحداث، وأرقام وأوصاف وأسماء، وكل ما يعيننا على تركيب المشهد كما يجب.

وبالرجوع إلى أساس المشكلة، سنرى أن هذا الأمر (الأميَّة السياسية) له ارتباط وثيق بأوضاع الدول وأشكال حكمها. فالدول التي تحكمها أنظمة سياسية مغلقة ومتسلطة، تنتج لها ثقافة سياسية منغلقة أيضاً. هذا الأمر لا نكتشفه في الأحوال العادية، بل يظهر للعيان عندما تعصف بالبلد هزات أمنية شديدة. فالمجتمع المنغلق، عادةً ما يشعر بالاختناق والكبت والانحشار، فلا يتبادر في ذهنه سوى الرغبة في التخلص مما هو فيه من اختناق وكبت بشكل عنيف وسريع.

ولأن اختناقه هو بالأساس في سياق تاريخي منتظم، فيه الفعل وردات الفعل، بحيث أثَّر بشكل تدريجي على وضعه النفسي وتوازنه، فإن انفكاكه الحاد من ذلك الوضع هو نتيجة طبيعية لذلك الخوف من عودة السيطرة عليه من جديد. حَصَلَ هذا في ليبيا منذ مارس/ اذار خلال ثورة فبراير/ شباط، وهو يحصل اليوم في سورية. هذان النموذجان المليئان بالعنف والعسكرة، هما في الأساس «أميَّة سياسية» قادت أصحابها (وبدون تبرير طبعاً) إلى استخدام العنف كمشروع خلاص مستعجل.

بالتأكيد، هناك نماذج أكثر وعياً داخل ذلك النوع من الدول، بالرغم من الانغلاق السياسي، وذلك نتيجة للانفتاح الفردي والجماعي، بسبب انتشار وسائل اتصال عابرة للحدود، بحيث تتخطى عامل الرقابة ومقصاتها، أو بسبب الهجرات نحو بلدان أكثر انفتاحاً وحريةً، إلاَّ أن السِّمَة الغالبة تبقى محكومة بذلك المزاج الحاد، وللعصبيات النفسية الفوارة، التي عادة ما يكون صوتها وقامتها أعلى في الصراعات، بحيث يغيب صوت العقل والمنطق لصالح الصِّدام والمناكفة المادية.

هناك أيضاً، نوع آخر من «الأميَّة السياسية» وهو الذي يحصل عادةً في نمط مختلف من الدول. فهو بالأساس مرتبط بـ «الفوبيات الطائفية والعرقية». وهو نوع من الأميَّة ينتعش ويزدهر في الدول المنقسمة طائفياً وعرقياً في ظل نظام شمولي شللي يعتمد على الأوليغارشية والزبائنيَّة. ولأن شعوب هذه الدول هي ذات مجتمعات منقسمة عرقياً وطائفياً، فإن أنظمتها التسلطيَّة عادةً ما تلجأ إلى تثوير مثل تلك النزعات والتناقضات، بهدف تحقيق مكاسب سياسية على الأرض لتحقيق الغَلَبَة، لأن تلك الأنظمة بالأساس غير معنية إلاَّ بمصالحها فقط، ولا شيء غير ذلك.

وربما نستطيع أن نستدعي تجارب أوروبا «البروتستانتية» و «الكاثوليكية» خلال الحروب الدينية، أو تجارب الدولتيْن الصفوية والعثمانية قبل 500 عام، وكذلك ما حصل في التجربة الأيرلندية مع الإنجليز. وفيما خصَّ التناقضات العرقية، فلا أعتقد أن الذاكرة العالمية (وبالتحديد الأوروبية والتركية منها) قادرة على نسيان ما شهدته منطقة البلقان من حروب ونزاعات، كونها مرتعاً للإثنيات والعرقيات منذ قرون خلت، أهمها حروب البلقان بداية القرن ثم مؤخراً في التسعينيات.

هذا النوع من الأميَّة السياسية ضمن هذه المجتمعات المنقسمة، والرازحة تحت الطغيان، تكون صنيعة مباشرة من النظام السياسي الحاكم. فهو يعمد إلى تخويف قطاعات إثنية وطائفية من أخرى أو من دول مجاورة، وذلك لتحويل المعركة من أرضه إلى أراضي طرفيْن لا ينتمي هو إلى أحدهما إلاَّ براغماتياً، لتتحول بذلك تلك الأنظمة من أنظمة مستهدَفة إلى أشبه ما تكون بالراعي أو الحَكَم الذي يفصل بين خصميْن، ثم وبعد الإنهاك الذي يعتري الخصميْن تنتصر إلى طرف دون آخر، طبقاً لمصالحها الإستراتيجية. وقد حصل ذلك في دول مختلفة في آسيا وفي جنوب شرق إفريقيا وفي مناطق من الشرق الأوسط.

في المحصلة، فإن الأميَّة السياسية هي داءٌ خطير يضرب المجتمعات ليدخلها في أزمات متوالدة. والمسئولية هنا تصبح كبيرةً على النخب في تصحيح هذا الاعوجاج حتى ولو استغرق الأمر منهم مالاً وجهداً ووقتاً كثيرا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3722 - الأربعاء 14 نوفمبر 2012م الموافق 29 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:46 ص

      same same

      ولأن شعوب هذه الدول هي ذات مجتمعات منقسمة عرقياً وطائفياً، فإن أنظمتها التسلطيَّة عادةً ما تلجأ إلى تثوير مثل تلك النزعات والتناقضات، بهدف تحقيق مكاسب سياسية على الأرض لتحقيق الغَلَبَة، لأن تلك الأنظمة بالأساس غير معنية إلاَّ بمصالحها فقط

    • زائر 1 | 1:22 ص

      تحية

      مقال رائع

اقرأ ايضاً