العدد 3722 - الأربعاء 14 نوفمبر 2012م الموافق 29 ذي الحجة 1433هـ

عصر إدانة الضحايا... «حَوَلُ» الأيديولوجيا

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في اختلال الموازين. في الحَوَل أو العمى الاصطناعي، إذا أريد له ذلك. في شريعة المزاج والتمييز. في الغياب عن الضمير، أو في انعدامه أساساً، لا يتهكّمنّ أحد حين الحديث عن زمن إدانة الضحايا. إنه حَوَل الأيديولوجيا؛ أو أيديولوجيا الحَول. لن تقف على عظيم فَرْق. الحَوَل في صورته المضاعفة الظاهرة والباطنة.

هذه البرّية الموحشة في تضييع الحقوق والتلاعب بها كما يَلعب الصبْية بالكرة. في هذا التصحّر اللاأخلاقي الفاقع في وقاحته وتجرؤه. في هذه العدمية من الحس وعدمية الأخلاق وصفْر الضمير، يصبح الحديث عن إنصاف الضحايا بمثابة تهريج وعرْبدة في مأتم، وبمثابة مأتم عزاء في حفل عرْس.

حقُّ الوجود ضمن حقوق لا تقبل المساومة عليها أو الابتزاز، وحق أن تفعّل ذلك الوجود بخيارات يكون لها أثرها في المحيط الذي تحيا وتتحرّك فيه، وحق أن تحترم من وما يحيط بتلك الحياة، وأن تكون على مسافة قريبة معها من حيث النظر إلى قيمتها وحرْمتها. ذلك أمر بات ضمن اليوتوبيا في عالم يحكمه المزاج وتحكمه الرغبة - تخفيفاً - والشهوة في الشائع والماثل والأكيد. شهوة الامتلاك والسطوة وتسخير كل ما دون الأقوياء والمهيمنين فيه، في سبيل رفاهية وحتى بطالة أولئك.

جانب كبير من سبب اضطراب هذا العصر أن الضحايا يُساقون إلى الإدانة في حَوَل بالغ. قانون وفقه يتوليان النظر إلى تلك الإدانة. قانون يتم سلْقه وتفصيله، وفقهٌ يتم تعهّده في ساعات متأخرة من الليل؛ بحسب الطلب والتبرير والمدْعاة.

عوْدٌ إلى حَوَل الأيديولوجيا أو أيديولوجيا الحَوَل، وللمرة الثانية، لن تقف على مدهش فرق. ليس تفكّهاً أو لعباً بالمفاهيم. ثمة أيديولوجيا للحَوَل، وحَوَل في الكثير من الأيديولوجيات. كل غضّ طرْف عن حق لا تعدم رؤيته حتى الأشياء هو حَوَلٌ وإن كان صاحبها بعيني «مْبيريجْ» الممثل العراقي المقيم في الكويت وأزمته بعد تحريرها من الاحتلال الصدّامي؛ بل هو عمى محض. كل تجاهل لخلل وانتهاك وتجاوز وقفز على حقوق الناس وإراداتهم هو حَول تخفيفاً؛ بل هو عمى محض. في خضمّ كل ذلك، الضحايا هم من يدفعون الثمن، أولئك الذين لا يُحسنون الدفاع عن أنفسهم لا عن ضعف؛ بل عن شحّ أدوات أوّلها القانون الشبح الذي يكاد لا يُرى أو يستدل على أثر له، وليس آخرها وجودهم (الضحايا) في بيئات لم تتقن سوى تمايزها في ذلك العار الذي يكاد لا ينتهي، ولا يُراد له أن ينتهي.

يُدان الضحايا في ظل الغياب وإن هيمن على أنفاس الناس، ويُدان الضحايا حين تهيمن منظومات العدم والفوضى، ويُدان الضحايا حين يتصدّر أمّيو القيمة والضمير وعديمو النظر، والمصابون بالحَوَل بكل أنواعه تقرير مصائر الناس، وتحديد من يستحق الحياة ومن ليس من حقه ذلك.

الأيديولوجيات التي تعاني من الحَوَل، كل إنجازها طوابير طويلة من الضحايا. إنهم نتاج وأثر العبث بكل شيء. الإنسان... الضحية هو الآخر يدخل ضمن الأشياء. لا أحد يلتفت إلى الأشياء التي لا تعنيه. لا أحد يلتفت إلى البشر الذين لا يعنُونه، ولا يمثل حضورهم أي قيمة أو معنى أو أثر. إنه مرض الأنا الذي يسمّم الحياة بعلاقاتها. علاقاتها التي لا تحتاج إلى شذوذ مثل ذاك كي تجد نفسها في الهاوية.ما يغفل عنه منتجو أولئك الضحايا، أنه كلما راكموا ذلك التكدّس اللاأخلاقي في المظالم وعلامات العار الشاهرة بيارقها قبل بلوغ مداخل المدن التي هي بمثابة فخّ بالنسبة إلى السائح، كلما راكموا ذلك، كان إيذاناً وشهادة على الخلل الذي هيمن على السويّ والصحيح ويُمْلي عليهم طرق الهروب إليه لا منه! وبالحديث عن العصر الذي تصدّر عنوان هذه المقالة، هو الآخر فاسد بمن يهيمنون عليه. الحَوَل في النظر والهيمنة لم يأت إلا من فساد الذين «يروْن» صالحهم عبْر مصادرة صالح الآخرين. الآخرين الذين لا معنى لهم باستحواذ المهيمنين أولئك على مطْلق المعنى الذي يتوهّمون. بعدها لا يعود تراكم الضحايا مفاجأة في هذه المنظومة من الخلل والاضطراب اللذين يقودان المرحلة بكل عناوينها العريضة، وبكل المرئي فيها وغير المرئي. ثم إن الأمم التي ضحاياها أكثر من مرفّهيها، أمم لا شك ميتة وإن توسّعت رقعة ضجيجها وحركتها. لا شيء يدل على الحياة سوى الإنصاف فيها. ما يمكن أن تراه وتنبهر به ويثير إعجابك هو القائم لا المائل. كأننا في جغرافيات من مَيْل لوفْرة الضحايا وشحّ الذين ينصفونهم.

العصور التي تنحاز إلى إدانة الضحايا لا شك أن رجالها في الزمان والمكان الخطأ، والخطأ في الدور الذي يمارسون من خلاله تلك الإدانة.

كأنه العصر نفسه والرجال أنفسهم الذين لا يريدون أن يخيّبوا ظن العدم، ذلك الذي تحدّث عنه الشاعر العربي الكبير الراحل محمود درويش في مرئيته «لاعب النرْد» التي اختتم بها النص: «عشرُ دقائق تكفي لأحيا مصادفةً/ وأخيّبَ ظنّ العدمْ... منْ أنا لأخيّبَ ظنّ العدم؟».

ليست الخيبة وحدها التي تجعل موازين هذا العالم رأساً على عقب. إنه تمهيد واستعداد بشر هذا العالم، ممن هم موكولون على مصائره، لتوريط الضحايا بمزيد من الخيبات بإدمان فعل الإدانات، والتوغل بشكل مرعب في حال من الحَوَل الذي بات أيديولوجيا العمى!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3722 - الأربعاء 14 نوفمبر 2012م الموافق 29 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 3:38 ص

      أي مستوى قد بلغه تشخيصك هذا يا أستاذ؟!!

      كعادتك يا أستاذ جعفر، فلقد جسّدت الحقيقة لدرجة تمكين المصاب بعمى الألوان من رؤيتها. ولكن سيبقى من هم في خانة من يُطلـَق عليهم في أدبيات الإدارة " الخشب الميّت Dead Wood" كما هم عليه من ممارسة الظلم في أبشع صوره. نحن مع الأسف في مكان وزمان الغلبة فيهما للباطل، ونلح في الدعاء ألاّ يطول بنا هذا المقام. شكراً لك.

    • زائر 1 | 1:10 ص

      عكس عكاس كما قال عادل امام وضعنا عكس عكاس

      اصبح الضحية هو الظالم وهو المخرّب وهو الارهابي وهو الخائن وهو المجوسي وهو الصفوي وهو وهو وهو كلام كثير وسب وقذف سمعناه ونسمعه يوميا ونقراه في مقالات الغث والتعليقات التافهة ذات المستوى اللغوي والفكري والاخلاقي الهابط والمتدني الى ابعد الحدود
      اذا اصبح التعليم والتعليم من اجل حفظ كلمات السب والشتم وحروفها فالعياذ بالله
      شعب تمارس عليه جميع انواع التمييز والعنصرية والاقصاء وعندما يرفع عقيرته تكال له تهم تئن الجبال لحملها.
      اقول اتقوا الله في انفسكم فإن الله يمهل ولا يهمل

اقرأ ايضاً