العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

ماليزيا والسباحة مع التماسيح

عندما رفعت الحكومة الماليزية شعار "العام 2020" للوصول مع ذلك العام إلى مستوى الدول المتقدمة لم يكن رئيس وزرائها مخاتير محمد يتوقع أن يأمر باعتقال نائبه ووزير ماليته أنور إبراهيم ليدخل البلاد في دوامة سياسية لن يستفيد هو منها ولن تساعد بلده على تحقيق أهداف العالم 2020.

قبل عام ونصف كانت ماليزيا واحدة من الدول الشرق – آسيوية التي تجتذب المستثمرين من جميع أنحاء العالم ومعدل البطالة فيها ينخفض ليقارب نسبة ضئيلة جدا تغبطها عليها جميع الدول المتقدمة. إلا أن الحديث عن ذلك الموقع يشبه القصة الخرافية التي تقول أن قيصر روما (قبل ألفي عام) كان لديه بركة كبيرة مملوءة بالتماسيح، وكان كل يوم يمر ومعه موكب كبير على جنب تلك البركة، وفي كل يوم يردد القيصر: "ان اي شخص يستطيع ان يسبح في هذه البركة دون أن تأكله التماسيح فإن ابنتي زوجة وروما يحكمها بعدي".

وفي ذات يوم، وبينما هو يردد الجملة وإذا بأحد الأشخاص يصارع الماء ويخترق صفوف التماسيح ليصل إلى الطرف الآخر من البركة.

سارع قيصر روما إلى ذلك البطل الذي استطاع السباحة وسط التماسيح واستطاع الوصول بسلام إلى الطرف الآخر، وربت على كتفه قائلا: "لقد ربحت يد ابنتي وربحت ملك روما بسبب شجاعتك وسباحتك وسط التماسيح... اطلب أي شيء وسيكون أمامك". التفت الرجل الذي خرج من البركة ومن بين التماسيح إلى القيصر قائلا: "انا لا أريد ابنتك ولا أريد ملكك. كل ما أريده أن تعرفني على الشخص الذي دفعني من خلفي وأوقعني في البركة"!

هكذا وجد المسئولون الماليزيون أنفسهم في ذات الموقف الذي تذكره القصة عن ذلك الشخص "البطولي" الذي سبح بين التماسيح. فعولمة السوق المالية وفرت للحكومة الماليزية فرصة نمو بمعدل 8 في المئة سنويا وصعدت مستوى دخل الفرد إلى قرابة أربعة آلاف دولار للفرد وخفضت الغلاء إلى أقل من 4 في المئة ودفعت بالقدرات البشرية إلى مستويات عليا لتنمية المجتمع. والمسئولون الماليزيون لم يلتفتوا إلى خطورة تسليم زمام اقتصادهم إلى سوق المال العالمي بل أنهم وزعوا مواقع القوة على المنفذين بصورة غير حسنة في كثير من الأحيان وحتى المناقصات كانت تمنح لفائدة الحزب الفلاني، أو ذلك الحزب، وشرع رئيس الوزراء الماليزي في مواصلة سياسته القائمة على "المحاباة" واقتسام النفوذ. كانت هناك طاقات مخلصة تمارس دورها حسب اجتهادها، ومن بين تلك الطاقات أنور إبراهيم الشخصية المنتمية سابقا لاتجاه إسلامي، الذي فضل أن يلعب دور الإصلاح من داخل النظام، بدلا من مهاجمته وانتقاده من الخارج. وكان وجود أنور إبراهيم (رغم الكثير من المؤاخذات) داخل حكومة مخاتير محمد يعتبر مؤشرا حسنا لإمكانية التعايش بين مختلف الاطراف في مجتمعاتنا الإسلامية التي تحاول الصعود إلى مستويات متقدمة.

غير أن اعتقال وزير المالية وضربه وإهانته بالطريقة التي مورست في ماليزيا لا ينبئ بالخير. فالذين يقبلون أن يستمروا في لعب أدوارهم ضمن حكومة مخاتير محمد فإنهم معرضون لنفس المعاملة مستقبلا، و"من حلقت لحية جار له فليسكب الماء على لحيته".

وفي الوقت الذي تستمر الأزمة السياسية في التصاعد في ماليزيا يجوب دول شرق آسيا الصمت على ما يجري، باستثناء حديث للرئيس الفلبيني أشار فيه إلى استيائه من معاملة أنور إبراهيم. هذا الصمت ليس صحيحا، وإذا كانت شرق آسيا تريد اللحاق بالمستوى الاقتصادي المتطور المتواجد في أوروبا الغربية، مثلا، فإن عليها أن تأخذ بالتجربة الحسنة التي تشمل الجانب السياسي بالإضافة للجانب الاقتصادي. فاتفاقية هلسنكي لعام 1976 بين الدول الأوروبية (منظمة التعاون والأمن الأوروبي) نصت في بنودها على اعتبار حقوق الإنسان شئون ليست داخلية. بمعنى، أن السيادة الداخلية وعدم التدخل في الشئون الدول الأخرى لا ينطبق على موضوع حقوق الإنسان. ولهذا نلاحظ إمكانية أن تتدخل الدول الأوروبية في شئون بعضها الآخر عندما يتعلق الأمر بحقوق المواطنين. وقد نظمت الدول الأوروبية هذا المسار من خلال المحكمة الأوروبية التي يستطيع أن يتقدم إليها المواطن الأوروبي للشكوى ضد حكومته التي قد تكون انتهكت حقوقه. والمحكمة الأوروبية أصدرت ولا زالت تصدر أحكاما تتعلق بمواطنين في دول أوروبية مختلفة، وتقوم تلك الحكومات بتنفيذ قرارات تلك المحكمة.

إننا بحاجة لمحاكم مستقلة خارج إطار سيادة دول معينة للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان. والحاجة هذه تزداد مع ازدياد الأوضاع سوءا في كثير من بلداننا الشرقية.

أن العالم يحتفل هذه الأيام بمرور خمسين عاما على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهناك سعي دولي حثيث للتوقيع على اتفاقية دولية لتنفيذ بنود "القانون الدولي لحقوق الإنسان" (وهو مجموعة العهود والمواثيق الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحماية الإنسان من التعذيب والتمييز وغيرها) وإنشاء محكمة دولية لحماية المواطنين من اضطهاد حكوماتهم.

والعالم في العام 2020 قد يبرز لنا خارطة اقتصادية مختلفة عما هي عليه الآن، ويتوقع أن تظهر قوى اقتصادية من مناطق اخرى مثل الصين واندونيسيا والهند والبرازيل، ولكن هذه الخارطة الاقتصادية ستكون غير مستقرة إذا استمرت العقلية الحالية التي تسمح بما حدث لأنور إبراهيم.

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً