العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

العدالة في المجتمع مسؤولية قضائية وسياسية

تقول أحدى القصص الحقيقية أن فرقاطة عسكرية خرجت في الليل ضمن برنامج تدريبي روتيني. وفي منتصف الليل لاحظ أحد الأشخاص في المراقبة أن سفينة مدنية أخرى تتجه مباشرة في نفس الخط وبالاتجاه المعاكس. وفي الحال تم أخبار القائد العسكري في الفرقاطة عن الوضع، فأمر القائد العسكري أن ترسل رسالة (برقية) إلى الباخرة المدنية تقول "إننا في نفس الطريق وسيحدث اصطدام، انحراف قليلا بقدر 20 درجة". وسرعان ما جاء الجواب من الباخرة المدنية التي تسير في الظلام "أنت الذي يجب أن تنحرف عشرين درجة، أنا مستمر في السير".

بعدها أمر القائد العسكري بإرسال رسالة أخرى تقول: "أنا كابتن ومسئول، انحرف 20 درجة". وقبل الاصطدام أرسل القائد العسكري رسالة أخرى تقول "أنا فرقاطة عسكرية بمعدات جاهزة للاستخدام، انحرف عشرين درجة".

الباخرة المدنية، وبسرعة فائقة تغير اتجاهها إلى أكثر من عشرين درجة دون جواب أو سؤال!

تذكر هذه القصة وأنا استمع لجلسة لجنة برلمانية تابعة لمجلس العموم البريطاني عقدت في 19 شباط (فبراير) الماضي لمساءلة رئيس المحفل الماسوني في بريطانيا، مايكل هيجهام Michael Higham. أعضاء البرلمان سالوا الرئيس الماسوني عن صحة ما يقال أن أعضاء المحافل الماسونية لديهم أشارات خاصة فيما بينهم للتفاهم والتعاون أثناء ممارسة نشاطهم اليومي. فكان الجواب، هناك إشارات خاصة بين أعضاء المحافل الماسونية في كل أنحاء العالم، ولكن ليس بالضرورة أن يتم استخدامها كما يشاع. غير أن أعضاء البرلمان وجهوا سؤالا آخر حول القضاة وضباط الشرطة الأعضاء في المحافل الماسونية، وهل أنهم يتعاونون فيما بينهم وهل لهم دور في بعض قضايا المحاكم التي برأت ضباط شرطة كانوا قد اجبروا بعض المتهمين للاعتراف بجرائم، واكتشف إنهم أبرياء منها بعد أن أمضى هؤلاء 7 سنوات أو 15 سنة في السجن.

رئيس المحفل الماسوني رفض أن يكون هناك أي رابط مع هذه المواضيع. أعضاء البرلمان من جانبهم طلبوا من رئيس المحفل الماسوني أن يعطيهم أسماء الشرطة (الأعضاء في المحافل الماسونية البريطانية) إلا أن رئيس المحفل أجاب بالرفض وأنه لن يوفر الأسماء إلا إذا كان هناك دليل واضح لتورط أحد أعضاء الماسونية في جرائم من هذا النوع.

السؤال والطلب كرره أحد أعضاء البرلمان "أريد منك جواباً واحداً فقط بنعم أو لا: هل ستعطينا أسماء لأعضاء المحفل الماسوني العاملين في جهاز الشرطة؟". الجواب يأتي "لا أستطيع ذلك، لانه لا يوجد مبرر لذلك".

انتهت الجلسة، وخرج أعضاء اللجنة البرلمانية وأصدروا قرارا برلمانيا إلزاميا يفرض على رئيس المحفل الماسوني أن يوفر أسماء الأشخاص خلال أسبوعين ويسلمها للجنة البرلمانية دون نقاش، وإلا تم تقديمه للمحاكمة بتهمة عرقلة مهام أعضاء البرلمان. وفي الحال، فعل رئيس المحفل الماسوني ما فعله البحار في الباخرة المدنية، إذ صرح بأنه سيسلم جميع الأسماء خلال الفترة المحددة.

البرلمان البريطاني يحاول إعادة الثقة الشعبية في نظام الشرطة بعد سلسلة من الفضائح خلال السنوات الماضية، اتضح خلالها أن عوائل ايرلندية وأشخاص أبرياء تم توريطهم بجرائم تفجير وإرهاب وحكم عليهم بالسجن لفترات طويلة، وبعضهم توفي في السجن، واتضح بعد ذلك أنهم أبرياء من التهم التي نسبت ليهم. وقد أصدر البرلمان قانونا مؤخرا يشترط على كل شخص يتم تعيينه في القضاء أن يجيب على سؤال محدد حول انتمائه لمنظمات سرية مثل "الماسونية".

يحاول البرلمانيون أن يكتشفوا جذور المشكلة ويحاولون أن يردوا على الاتهامات التي تقول أن هناك جمعيات سرية مثل "المحفل الماسوني" تقوم بدور أكبر مما هو معلن يؤثر بصورة مباشرة على حكم القانون وعلى العدالة في المجتمع.

وفي الوقت الذي يحاول البرلمانيون البريطانيون تطهير مؤسسات القضاء والشرطة من الشوائب والتصرفات التي تؤدي لعذاب المجتمع أو بعض أفراده بدلا من إسعاده، تنطلق دعوات من حكومات بعض بلداننا في الشرق الوسط باعتقال المعارضين العرب اللاجئين في بريطانيا. والدليل المطروح لدى هذه الحكومات هي محاكمة عسكرية أو أمنية اتهمت واكتشفت وحكمت وأصدرت أوامرها، وما على الحكومة البريطانية إلا تنفيذ تلك القرارات. ويبدو أن حاملي هذه الراية لا يفهمون منطلق العدالة ولا يفهمون منطلق السياسة على المستوى الدولي. فالمجتمع البريطاني يهتز لان هناك أبرياء حكم عليهم بعد تعريض المتهمين للتعذيب وبعد أن وافق أولئك المتهمون بالاعتراف للتخلص من التعذيب.

ورغم أن القضايا متفرقة وقليلة، ألا إن الخسائر التي لحقت بالحكومة ليست قليلة ولم تتوقف عند إحالة ضباط الشرطة إلى المساءلة وإبعاد قضاة وتعويض الذين ظلموا والإفراج عن أولئك الذين من المحتمل أنهم شاركوا أو قاموا بعمل ما ولكن بما أن الذين تعاملوا مع قضاياهم متهمون بعدم العدالة، أبرياء، بل أن البرلمان يخصص جزءا كبيرا من برنامجه التشريعي لملاحقة جذور الخطأ والمشكلة لتصحيح الأوضاع وإعادة الثقة مع الشعب.

أما في تلك البلدان التي لازالت تعيش التخلف السياسي والحضاري والتي لا تعترف بقيمة للمواطن وللشعبـ فإن أبناء الوطن يقدمون ضحايا للأخطاء السياسية التي يرتكبها "الساسة" الابديون.

والمواطن لا يتعرض فقط للتعذيب والإجبار على الاعتراف على أمر قد حدث، وإنما يجبر المواطن على الاعتراف بشيء لم يحدث على الإطلاق. عدم العدالة ليست قضية أو قضيتين، وإنما هي كل القضايا السياسية.

والقضايا السياسية ليست قليلة بل ربما حازت على الجائزة الأولى في العالم من ناحية العدد. أن مجتمعاتنا بحاجة "لرادع" يقف أمام الاستهتار بحياة المواطنين، كرادع اللجنة البرلمانية البريطانية ورادع الفرقاطة العسكرية.

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً