العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

لسنا بحاجة لقانون بريطاني لكي نعود لأصولنا الطيبة

تطرقت سابقا لمواضيع معروضة للنقاش في البرلمان البريطاني، والمتتبع لمجريات النقاش في برلمان هام مثل مجلس العموم البريطاني أو الكونغرس الأميركي (والأهمية نابعة من اثر هذه البلدان على سياسات الشرق الأوسط) يستقرئ الكثير من خلفيات الأمور. وعلى هذا الأساس شدني مشروع قانون تقدم به النائب العمالي في مجلس العموم السيد بيلي بتاريخ 25 شباط (فبراير) 1998. هذا القانون، فيما لو تمت الموافقة عليه، يمثل تنفيذا جزئيا لسياسات محاربة الفساد السياسي، ليس في بريطانيا، وإنما في دول العالم الثالث وغير الثالث (الدول التي لا تعرف موقعها من الأعراب بعد).

مشروع القانون المذكور ينص على منع وتجريم أي شركة بريطانية تعمل في الخارج وتوافق على دفع "العمولة" للوسطاء غير المستحقين في تلك الدول. والوسطاء غير المستحقين هم الوزراء والمدراء وكل شخص لديه وظيفة مرتبطة بالقطاع العام. فالوزير أو الرئيس أو الموظف في دول معينة لا يحق له خصم 10 في المئة أو 20 في المئة أو 30 في المئة عمولة على مناقصات الدولة التي يمثلها. وفيما لو قام أحد المدراء أو السياسيين في دولة من الدول المتقدمة بعمل مثل هذا فإن نهايته السجن أو الفصل من عمله على أقل تقدير.

وقفت موقف الإعجاب بهذا النائب الشريف الذي يرى من واجبه ليس محاربة الفساد في بلده فحسب وإنما "منع جذور الفساد" في البلدان الأخرى أيضا. تحدث أحد أعضاء حزب المحافظين قائلا: " أن مشروع هذا القانون خطير ويمثل تهديدا كبيرا لقدرتنا على الحصول على أعمال تجارية في بلدان كثيرة. وإذا عاقبنا شركاتنا فإن الشركات الألمانية والفرنسية واليابانية والأميركية هي التي ستفوز بالمناقصات، لأنه لا يوجد عليها مثل هذه القيود". السيد بيلي قال بأن العمولات التي تقبل الشركات تضمينها في المناقصات لا تضر سوى الفقراء أو المواطنين في تلك الدولة، لان المسئول الذي يحصل على تلك لنسبة لن يدفع مقابلها أي شيء، وستتم زيادة سعر المشروع وسيقوم مواطني ذلك البلد بدفع العمولة غير المشروعة.

حدثني احد الأشخاص أن وفدا من بلاده قدم إلى بريطانيا، وكان ذلك الوفد لا يجيد اللغة الانجليزية بحذافيرها، وطلبوا منه حضور الاجتماعات للمساعدة في الترجمة، خصوصا وأن المشروع موضوع النقاش هو من تخصص الشخص المذكور. يقول: جلست اترجم وبعد ساعة ونصف من الحديث، طلب مني أحد أفراد الوفد ان أقول لمدير التسويق البريطاني أن كل هذه التكاليف لا بد من إضافة 15 في المئة عليها وهي قيمة العمولة للوفد القادم من إحدى الوزارات في دولة شرق أسطية. ولكن صاحبنا خجل من الترجمة، غير أن المدير البريطاني سارع بالقول "أنا اعلم أن هناك عمولات تضاف في هذه البلدان وستكون جزءا من التكاليف بعد أن استشير المدير المالي حول طريقة إضافتها من قبلنا.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد. ففي كثير من البلدان هناك سلسلة من الأشخاص تبدأ بأول مدير وتنتهي بالفراش أحيانا، جميعهم يعتمدون على العمولات وعلي التوزيع بينهم. وإذا أخذنا ما تصرفه الدولة سنويا على المشتريات من جميع الأنواع وعلى المناقصات وخصمنا منها 15 في المئة وقارنا ذلك بالمصاريف والثراء الذي يحصل عليه بعض المسئولين نعلم الخطورة.

دول مثل سنغافورة عالجت الموضوع قضت على الفساد الإداري، وإذا كانت سنغافورة تستطيع الضرب بيد من حديد على الفساد فإن أي دولة أخرى تستطيع أيضا أن تضرب بيد من حديد على الفساد الإداري. ثروات بلداننا لا تذهب فقط في شراء الأسلحة التي لا تفيدنا عندما نحتاج إليها، وإنما أيضا في شراء الأسلحة التي لا تفيدنا عندما نحتاج إليها، وإنما أيضا تذهب أجزاء كبيرة منها في العمولات غير المشروعة. لقد أصبح من المعروف عن الوزير والمدير الفلاني انه (مستر تن بيرسنت)، أي "السيد 10 في المئة"، لان جميع من يتعامل مع وزارته يعلم ان عليه ان يخصص 10 في المئة وإلا فليذهب إلى الجحيم.

أخجل كثيرا وأنا استمع لعضو برلمان في دولة مثل بريطانيا، تلك الدولة التي استعمرت بلداننا في الماضي، اخجل وأنا اسمع لدعوة صادقة تنطلق من عاصمة الضباب. وأخجل أكثر عندما اسمع الردود على مشروع هذا القانون التي تقول ان الفساد الإداري حقيقة ثابته وملازمة وربما أبدية في هذا البلدان، ولا داعي لان تطرح مشاريع من هذا النوع.

هل عجزنا عن إصلاح أمرنا لكي نحتاج لمن يصلح حالنا؟ نرفض هذه الدعوة ونبقى على الفساد؟ هل صحيح أن مصيرنا مربوك بالفساد الإداري المحتوم علينا؟ أسئلة كثيرة قد تنطلق هنا وهناك، والأجوبة على ذلك ليست صعبة وإنما الصعب في الإدارة لتغيير الواقع. فحتى في بريطانيا هناك العمولات وهناك الفساد الإداري. ولكن الفساد مطارد من قبل نواب الشعب ومن قبل الصحافة ومن قبل القضاء ومن قبل جماعات الضغط. والأهم من ذلك فإن موضوع الفساد مرتبط بالثقافة المعمول بها في الأوساط المختلفة. فإذا كانت الثقافة تقول إن السرقة "بأي نوع من أنواعها" مسموحة للكبير وليست مسموحة للصغير فإن "حكم القانون" ليس نافعا في هذا الحال. ففي الدول التي لا يسيطر عليها الفساد يعلم الجميع أن التلاعب بالمال العام، حتى لو كان من الرئيس أو رئيس الوزراء أو الملك أو الملكة يعني ان ذلك الشخص وضع نفسه في موقع لا يحسد عليه، إذ لن يرحمه أحد، كائنا من كان.

هذا جانب، وهناك جانب أخر، هل أن سير الأعمال يخضع لرقابة ذاتية، أن انه يخضع لرقابة خارجية فقط، فلو وظفنا جيشا من المفتشين سيكلف كثيرا ربما أكثر من السرقات التي سيكتشفها، وجيش المفتشين قد يم إفساده من خلال الممارسات المنتشرة بصورة سرطانية. هناك عامل أهم من كل هذا وهي الرقابة الذاتية.

والرقابة الذاتية ترتبط بالمفاهيم الدينية والوطنية المعمول بها "بصورة فعلية" على أرض الواقع. مثلا، لا يتجرأ المرء في بريطانيا أن يطلب من موظف أن يقدم ورقة طلبه لمسألة ما مقابل المال، ذلك لان أفراد المجتمع (بصورة عامة) فيهم الكثير ممن سيقول له "توقف عند حدك وسأقدمك للقانون"، أو أي شيء آخر بهذا المعنى. هناك الرقابة الذاتية المطلوبة من الجميع. والثقافة من هذا النوع لا تسمح بالتبرير المطروح أحيانا، مثل "الجميع يسير أموره هكذا"، أو "ليس حراما أن تعمل هكذا أمر مع أمثال هؤلاء أو مع هذا النوع أو ذاك النوع من الناس".. الخ.

لسنا بحاجة لقانون صادر من البرلمان البريطاني، وإنما بحاجة أن نعود إلى جذورنا وأصولنا الخيرة لنتخلص من الفساد.

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً