العدد 3733 - الأحد 25 نوفمبر 2012م الموافق 11 محرم 1434هـ

خريف السياسات... خريف الأعمار

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في حياة كل منا فصول لا يمكن أن يغفلها. في حياة كل منا أكثر من فصول أربعة. الفصول دورية، بينما بالمزاج الذي يحتوشنا وينقضّ علينا، لكل منا أكثر من فصل في اليوم؛ بل في الساعة. ربيع كل منا حين نتصالح مع ما ومن حولنا في أريحيّة بالغة، في حدود ما يمكن التصالح معه والتجمّل أمامه، من دون أن يعني ذلك انتقاصاً أوسفْحاً لماء كرامة أو قيمة. ربيع أي منا حين لا يرى بأساً وإهانة في الصفح والتجاوز عمّن أساء. ذلك ربيع خاص وحصري لأي واحد منا. ربيع بعضنا أن يسمو بنفسه في نكران بات بضاعة كاسدة، ومروّجها يُنظر إليه باعتباره يعاني من اضطراب في عقله أو إحدى حواسّه.

ولكل منا نصيب من قائمة تلك الفصول الدورية في حركتها وحضورها، ولكنها شبه يومية أو آنية في الساعة الواحدة تبعاً لبوصلة واتجاه المزاج وما يحيط به ويؤثر عليه.

أعمارنا منذورة للخريف لأنها جزء لا يتجزأ من الدورة الطبيعية للحياة. بذرة، فنبتة، فإثمار، فقطف فوحشة بعد ذلك.

سجلّنا فيما نختار وننحاز ونصطف ضمن تلك الأعمار هو الآخر منذور لقانون الفصول ودورتها. صيف في لهيب الخيار، وشتاء في النأي بأنفسنا عن ذلك، وربيع حين نفاجئ من ظن أننا في غيبوبة الأثر والخيار لنحدث فارقاً في كل ذلك، وخريف حين نعلن بالأداء أننا ارتضينا الخروج من مشهد تلك الدورة بكل تقلباتها.

السياسات أعمار أيضاً. السياسات بالأداء المسئولة عنه ليست في معزل عن دورة الفصول تلك. الشعوب عموماً في عمق تلك الدورة التي باتت مربكة ومرعبة في الوقت نفسه. مربكة بهذه الجرأة في الخروج على الثابت من علوم إنسانية ومناهج واستراتيجيات غفلت وفشلت في الرصد. الثابت من سياسات يتم التعامل معها باعتبارها نصاً لا يمكن الاجتهاد إزاءه بطبيعة الممارسة والعنف الغالب.

فصلُ وطقسُ أيٍّ منا يختاره هو. يختار ربيعه وهو في خريف عمره ويختار خريفه وهو في الربيع منه. اختيار لا بمعنى التحكّم في ظواهره؛ بل في الاستسلام لحاله. حال إحباط لن تكون طبعاً ربيعاً، وحال استسلام لشحن وتضييق تدخله في جحيم يكون الصيف إزاءه جنة استثنائية.

والشتاء هو الآخر، كما هو سائد، شيخ الفصول. والشيخ لن يكون عدّاءً أو بطلاً لاختراق الضاحية. هو شيخ في ركونه وسكونه وشبه جموده.

السياسات اليوم بحسب الذين يهيمنون عليها، وبحسب قناعاتهم في الحقوق، وبحسب نظرهم إلى الشعوب باعتبارهم رعايا أم مواطنين، وبحسب إيمانهم أساساً بالدور الذي يقومون به محكوماً بضوابط ودساتير وقيم وثوابت وأعراف أيضاً؛ باعتبار أن القانون لم يهمل أو يهمّش الأعراف؛ بل أدخلها ضمن المنظومة تلك تبعاً لامتداد وسيادة وحضور ذلك العرْف.

ضحايا السياسات الخرقاء والمستنزفة لطاقات وثروات وكرامات الشعوب أيضاً لا يمكن أن يثقوا بفصول اصطناعية وزائفة ومفبركة ومدفوعة دفعاً عبر إعلام لا يتردّد في الولاء لمن صنعه والتبرؤ ممن خلق الجميع. كل فصول تلك الأنظمة بأداء كلّف الأمة والعالم عموماً، لن يتجاوز قيد أنملة فصل الجحيم في ذروة تسجّره والخريف في خَرَفه أيضاً.

بعد عقود وربما قرون من التحكّم في الفصول والطقس؛ والاستهزاء بمن هم تحت رحمتها؛ وخصوصاً في ظل انعدام الإحساس بتلك التحوّلات بتأبيد الجحيم أو الخريف باعتبارهما طقسين مقرّرين ومفروضين من قبل المتحكّمين أولئك، تصحو المنظومات تلك فزعة على صوت تفجّر ربيع في شتاء هو الآخر له جُهْمته وتحييده. في الجانب الآخر من المفاجأة تفجّر ربيع في جحيم وصيف قائظ.

اختلّت موازنة ومعادلة التحكّم في كل شيء؛ بدءاً بالمزاج وليس انتهاء بفصيلة دم الذين يصنعون كل ذلك. فصيلة دمهم أنها قابلة للاستدراك والتدخل السريع بعد طول جمود وخمول وانكسار.

البشر هم سادة الفصول والمتحكّمون في مساراتها في أمزجتهم وأرواحهم وإراداتهم وخياراتهم. يمكن لهم أن يحيلوا جحيمهم إلى شتاء وخريفهم إلى ربيع، وببلادتهم وغيابهم يمكن للمهيمن على أمزجتهم وأرواحهم وإراداتهم وخياراتهم أن يوهمهم بالربيع في ذروة الخريف، والشتاء في عمق الجحيم. لا حواس لهم بانعدام كل ذلك (الأمزجة والأرواح والإرادات والخيارات).

من يحدّد فصول من؟ من يقرّر خريفاً هنا أو ربيعاً هناك؟ من يملك الحق في وهْب أعمار هنا، واستلاب أعمار هناك؟ فقط هو الإنسان. الإنسان الذي يجد نفسه منذ الولادة محكوماً ومُسيطراً عليه من جهة، وفي كثير من الأحيان من دون أن يكون له رأي في كل ذلك. لهذا فقط تبرز الجرأة على توهّم منح الأعمار إسرافاً في مكان، وتقرير نهايتها وخريفها في مكان آخر. ولهذا فقط تفاجئنا الفصول التي لا نريد ولا نُحسن التعايش والتكيّف معها. فصول لا دخْل للطبيعة ودورتها فيها، بقدر ما هو تدخّل العنْوة والقهر والفرْض.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3733 - الأحد 25 نوفمبر 2012م الموافق 11 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً