العدد 3763 - الثلثاء 25 ديسمبر 2012م الموافق 12 صفر 1434هـ

الحوار والتغيير... والديمقراطية البرلمانية

محمود القصاب comments [at] alwasatnews.com

.

في مقالة سابقة على هذه الصفحة، قلنا إن الحوار الذي سينتقل من الشارع إلى طاولة المفاوضات، يجب أن ينتهي إلى جملة من الإصلاحات السياسية والدستورية التي تقود البلد إلى ديمقراطية حقيقية، وحياة سياسية واجتماعية متطورة. وقلنا إن مثل هذه الحياة التي ننشدها لبلدنا وشعبنا ترتبط بالإصلاح، بعيداً عن الاستبداد والفساد اللذين أنهكا البلد على مدى عقود طويلة.

لذلك فإن كل القوى والأطراف المشاركة في الحوار مطالبة بالتوقف عند كل الأفكار والرؤى التي يمكن أن تغني الحوار وتساهم في بلورة مشروع سياسي متوافق عليه من قبل كل هذه القوى، لأن جميع هذه التصورات والأفكار مهما بدت متعارضةً أو مختلفةً، تمثّل خلاصة وجهات نظر القوى السياسية ورؤيتها للأحداث والتطورات التي شهدتها البلاد طوال العامين الماضيين. وكما يقال إذا كانت السياسة هي «فن الممكن» فإن الديمقراطية هي «فن المساومة»، وهذا يعني ضرورة البحث والتفتيش عن حلول مبتكرة، وغير مألوفة لمساعدة بلدنا على التخلص من المصاعب التي تحيط به من كل جانب. فقد علمتنا الأحداث الأخيرة أن سلوك نهج الحوار الحضاري يعني القطيعة التامة مع نهج العنف والفتنة الذي لا يمكن أن يخلف سوى الكوارث السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية، التي يكفي بلدنا ما طاله منها حتى الآن.

ويمكن أن تكون البداية في الاتفاق على جملة من المبادئ التي لا تشكل أي خلاف بين القوى المختلفة، وعلى رأس هذه المبادئ وحدة الوطن واستقلاله وسيادته، ورفض أية تدخلات خارجية في شئونه الداخلية، بالإضافة إلى تأكيد عروبة البحرين وانتمائها العربي والإسلامي. كما يجب الاتفاق على حصر الخلاف بين الأطراف المشاركة في بعده السياسي فقط، من دون التعدي أو مصادرة حق بقية الأطراف في أن تكون لديها رؤيتها وتصوراتها للأحداث وأسبابها وسبل الخروج منها. وهذا يستدعي التخلي عن النظرة الاستعلائية التي تدعي احتكار الحقيقة، وبالتالي احتكار الوطنية وتمثيل الوطن، وجعل أيّ رأي معارض أو مخالف وكأنه خلاف مع الوطن.

هذه نقطة جوهرية تقودنا إلى طبيعة النظام الديمقراطي الذي ينبغي التوافق على حدوده وسقفه، لأنه لا يكفي التغني بمحاسن الديمقراطية، أو الادعاء باعتمادها كنهج للحكم، بينما نحن غير قادرين على التعاطي مع أصولها وقواعدها المعروفة، بدليل ما هو حاصل على أرض الواقع من سلوكيات تتنافى مع أبسط معايير الديمقراطية. وهذا لا يعني أن الديمقراطية قادرة على إنهاء الخلافات أو الصراعات بعصا سحرية، لكنها حتماً ستكون عاملاً مساعداً في إدارة الخلافات بصورة حضارية، لأنها تملك من الوسائل والآليات ما يمنع أية خلافات من الانحراف إلى منزلقات طائفية أو عنصرية مدمّرة كما شهدنا خلال تطورات الأزمة.

فالديمقراطية ليست انتخابات وصناديق اقتراع فقط، إنّما هي مجموعة قيم وإجراءات إذا ما غابت تغيب معها الديمقراطية المتعارف عليها في الدول العريقة التي يطمح ميثاق العمل الوطني في دفع البحرين إلى مصافها. وفي مقدمة هذه القيم احترام التعددية السياسية والفكرية والعقائدية، وكذلك احترام حرية الرأي والتعبير وحق التظاهر السلمي، والسماح بقيام الأحزاب السياسية، وهي أيضاً الشفافية التي تسمح بمواجهة الفساد ومحاسبة المفسدين، وقبل هذا وذاك، هي حرية نقد الدولة ومحاسبتها على أخطائها وتجاوزاتها، فهذه حقوق كفلها الدستور.

ما نريد أن نصل إليه من هذا الاستطراد حول مفاهيم وأصول الديمقراطية هو مناقشة محور أساسي وجوهري يجب أن يكون في صدارة أجندة أي حوار قادم، لأنه يتعلق بموضوع خلافي بين المعارضة من جهة والدولة وبعض القوى السياسية الموالية من جهة أخرى، وهو الموضوع الخاص بمفهوم «الحكومة» المعبّرة عن الإرادة الشعبية، وطبيعة البرلمان الذي يمكن أن يفرز مثل هذه الحكومة، إذا ما تم الاتفاق أو التوافق بشأن هذه الصيغة المتقدمة في المسار الديمقراطي، هذا بالإضافة طبعاً إلى النقاط الخلافية الأخرى، مثل دور المجلس الوطني بغرفتيه (النواب والشورى)، ونظام الانتخابات وتوزيع الدوائر الانتخابية، وغيرها من الملفات ذات الصلة بالفساد والتجنيس السياسي، والتمييز ونظام الأحزاب.

وكما هو معروف في الأنظمة الديمقراطية، تكون الحكومات عادةً نتاج مجالس أو برلمانات منتخبة انتخاباً حراً ونزيهاً (حكومة برلمانية)، أما إذا كانت الديمقراطية ناقصة أو مقلوبة، تكون الحكومة هي من تصنع «البرلمان»، ويتحوّل هذا الأخير إلى مجرد أداةٍ بيد الدولة التي عادةً ما تتحكم أو تتلاعب بنظام الانتخابات وتوزيع الدوائر الانتخابية، بما يلائم خططها ويحقق أهدافها في التحكم في العملية السياسية برمتها.

والسؤال المشروع الذي يطرح هنا هو: أي دور يمكن أن نتوقعه من هكذا «برلمان» سواء في المجالات التشريعية أو الرقابية، وخصوصاً عندما يتحوّل النواب إلى دروع ومصدات لحماية السلطة السياسية من أية مسألة أو محاسبة. والطامة الكبرى عندما نجد بعض هؤلاء النواب وقد احتلوا مواقع الحكومة في الدفاع عن سياساتها والمزايدة عليها أحياناً.

نقول هذا ونحن ندرك صعوبة إقرار صيغة «الحكومة البرلمانية» في البحرين في الظروف الراهنة في ظل الموازين أو المعادلات السياسية المحلية والإقليمية، وهي عموماً ظروف معاندة لمثل هذا التوجه، لأن من شأن هذه الخطوة أن تقود إلى تغييرات غير معهودة في بنية النظام السياسي وتعيد صياغة العلاقة بين كل السلطات في البلاد. ولكن هذه الصعوبة لا تمنع من الحوار والنقاش للوصول إلى صيغة مرنة تفسح المجال في المستقبل لتطويرها وفق خارطة زمنية متفق عليها، وهي مسألة ينبغي الاهتمام بها، لأن كل المتغيرات في المنطقة تدفع إليها عاجلاً أو أجلاً. وهناك اتفاقٌ عامٌ على أن الأوضاع في عموم المنطقة لا يمكن أن تعود إلى ما قبل الربيع العربي، حيث يجري إعادة وصياغة مفهوم الدولة، وإحداث تغيير في الخرائط السياسية للدول، والبحرين لن تكون استثناءً، بل كان يجب عليها التعاطي مع هذه القضية بالأمس قبل اليوم، وكان ذلك أسهل في بداية الحراك الشعبي، قبل أن تعمل الإرادات الممانعة للإصلاح وقوى الشد العكسي على أخذ بلدنا إلى مواقع وخيارات ما كان يجب أن يذهب إليها، ودفع هذه الأثمان الباهظة.

ما نطرحه هنا ليس من باب التزيد أو الترف السياسي، إنما هي متغيرات تفرض نفسها في سياق التحولات الديمقراطية، في لحظةٍ مفصليةٍ تمر بها الدول العربية بمختلف أنظمتها السياسية، جمهوريةً كانت أو ملكية.

ويجد المرء نفسه مضطراً لدعم وجهة النظر هذه إلى استدعاء التجربة المغربية، حيث رأينا كيف أقدمت القيادة المغربية في خطوةٍ وصفها المراقبون والمحللون بالذكاء السياسي في احتواء الحراك، والتقدم بحزمة إصلاحات سياسية ودستورية مهمة، منها إسناد تشكيل الحكومة إلى الكتلة السياسية التي تفوز بغالبية المقاعد البرلمانية في الانتخابات، ومع هذا ظلت هناك قوى وأحزاب يسارية ودينية رافضة لهذه الإصلاحات المتقدمة، وخصوصاًً جماعة العدل والإحسان التي توفي مرشدها الروحي الشيخ عبدالسلام ياسين قبل أيام، فقد استمرت الجماعة في نقدها للنظام الملكي ورفع شعار «دولة الخلافة»، ولم نسمع أنه تم تخوين أو تجريم قيادات هذه القوى أو الزج بها في السجون لمجرد أنها عبّرت عن رأيها وتمسّكت برؤيتها السياسية.

لذلك نطالب القوى السياسية في البحرين بأخذ العبرة، والشروع في مناقشة كل الموضوعات الخلافية، وعدم إضاعة الوقت والجهد في مماحكات لا طائل منها، والاتفاق على الصيغة السياسية المناسبة التي نعيد معها تشكيل الخريطة السياسية في البلد بصورةٍ متوازنةٍ ومنصفة، لأن في ذلك تكمن مصلحة بلدنا وحمايته من المخاطر والتوترات المرشحة للتصاعد في المنطقة، وتدارك أية انعكاسات سلبية على أمننا الوطني والسياسي.

وعلينا جميعاً أن ندرك أن البحرين تقع في قلب هذه المنطقة الحبلى بالتطورات والمشاريع الغامضة والسياسات المريبة التي ترسم لها، لكل هذه الأسباب يجب أن يكون شعارنا في الحوار القادم التغيير بيدنا لا بيد غيرنا.

إقرأ أيضا لـ "محمود القصاب"

العدد 3763 - الثلثاء 25 ديسمبر 2012م الموافق 12 صفر 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 5:31 ص

      الحوار .. نعرف عنه انه حلم

      الحوار والحلول لن تفلح .. لأنه ببساطة ما جاء أمر من أمريكا خلاص حتى أطفالنا يدرون .. كله بالريموت كنترول .
      ما عاد الأمر سر . الكل يعرف .. انتهى The game over

    • زائر 3 | 1:44 ص

      لماذا

      يا استاذنا لا تجلس مع القوى السياسية الاخرى لمناقشة هذه الافكار علما بان العديد منها موجود فعلا في الدولة ولكنها تتطلب الاصلاحو لا يوجد خلاف على ذلك بين معارضة و موالاة و البقية الصامتة. الحوار ايضا يتطلب بعض التنازلات التي لا يريد اي من الطرفين تقديمها و لذلك سوف ندور في نفس الدوامة الله يفرجها انشاءالله

    • زائر 2 | 12:51 ص

      هم بعد انت تتكلم عن الحوار قلنا لكم البضاعة خلصت بحّ!

      ما ادري ويش السالفة مع هالحوار كل واحد يكتب عن الحوارّ!
      اي حوار اي بطيخ حوارهم هو الحوار الامني قلتها هناك واقولها هنا افهموها بقى
      الحل الامني هو الحلّ والحوار الامني هو الحوار الجماعة خالصين

    • زائر 1 | 11:19 م

      الحوار والتغيير

      هذه المقالة الرائعة والتحليل المنطقي وغيرها من مقالات مماثلة لو عرضت في بلد اخر لتم استخدامها كخارطة طريق للخروج من اي أزمة سياسية
      ولكن نحن في البحرين لا نجيد استخدام الموارد والكفاءات البشرية والحلول المتاحة ونطوعها للاستفادة منها لمصلحة الوطن وتجربة المغرب خير مثال للأسف نعطي جل اهتمامنا للقشور والبهرجة ونترك صلب الموضوع

اقرأ ايضاً