العدد 3764 - الأربعاء 26 ديسمبر 2012م الموافق 12 صفر 1434هـ

قلب المتاهة... متاهة القلب

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

القلب البارد لا يعود قلباً. إنه مضخة دم فاسد. مضخة فراغ أكثر منه عضلة تنظّم هندسة جسد أي منّا. القلب البارد لا قلب فيه أساساً. إنه مضخة معطّلة حتى إشعار آخر. قلب مثل ذاك هو المتاهة؛ بل أسوأ من ذلك بكثير. إنه انعدام الجهات حتى وأنت في مكانك الخاص. في بيتك وأكثر الأمكنة التصاقاً بها. قلب لا يفزع لخلل وانتهاك وتجاوز وتسلّط واستيلاء وإباحة دم لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون قلباً. قد يكون أي شيء. أي مسخ. أي عدم. قلب لا يجمع هو كارثة تنثر الناس نثراً كحَبّ الحصيد. قلب يتآمر... وعاء للخسة... بوق لاستهداف من لا يلتقي معه، هو مجمّع أمراض وعُقد. العالم أزمته اليوم مع من يدّعون القلب. النتائج على الأرض تقول، إن الحديد أكثر قلباً من قلوبهم. القلب الذي لا ينبض من أجل من حوله ومن أجل العالم سينبض لصاحبه إلى حين. حين يرحل عن هذا العالم يكون قد أزاح عبئاً مثّله. على الضدّ من ذلك، الذين وُجدوا ووُجدت قلوبهم من أجل العالم ستنتقل قلوبهم تلك إلى بشر ضمّهم ذلك القلب وكرّس الحب فيهم في زمن بات فيه الحب غريباً وكائناً شاذاً.

ثم ما المتاهة؟ ألاّ تكون بقلب واعٍ ومدرك وحاضر الحسّ والبديهة. أن تكون في متاهة يعني أن يكون قلبك في غياب. أن تكون بقلبٍ صورة. ما بعد الصورة في المعنى غائب ومُفتقد. هذا العالم اليوم من دون قلب. في الصميم من المتاهة. لا هدىً يدلُّ عليه. لا فكرة خروج من هذا العبث ولا خريطة منجاة يمكن أن توفّر ما تبقّى من نقاء وبياض وبراءة في هذا العالم. هل ثمة منجاةٌ ونقاءٌ وبياضٌ وبراءةٌ مع كل هذا الغِلّ المستفحل في غياب القلب؟ من دون قلب لا ترى شيئاً بصفاء. في المتاهة لا يُمكن أن ترى الأمر نفسه. كلٌّ ذاهب فيما يشبه العدم. أن تكون بقلب مفعّل يعني أن تكون جزءاً من تفاصيل وحركة العالم من حولك، وجزءاً من تفاصيل وحركة العالم عموماً. ثمة أطراف لا تريد لمن كانت في روحة ذرّة قيمة وشرف وحرية أن يكون بقلب. القلب سيُعرّي تلك النوايا. تتمنى ألاّ يبرح متاهتها بانعدام القلب وقيمته. تتمنّاه في غياب لا تريد له أن يطول فحسب؛ بل تريد له أن يكون أبدياً. لا هدى يُتوّج من دون قلب. لا متاهة يمكن أن تنجب أو تفرّخ هدىً. المتاهة عذاب يجرح الروح وينال ممن كان له قلب. لا نتحدث عن الذين بلا قلوب. أولئك محْض غبار في مهبِّ الحياة واشتراطاتها. كل ما حولك في الحياة اليوم يضجّ بالقيمة والابتكار والإبداع هو نتاج عقل محاط بالقلب ومحروس به. كل قبح وتشرذم وتآمر وتخلّف ومُصادرة واختطاف واحتكار هو نتاج متاهة. نتاج غياب الحسّ والمتحكّم في ذلك الحسّ: عقل وقلب. ثمة سوق كبرى ومفتوحة اليوم لشراء القلوب ولزرع المتاهات وبيعها. بيعها على الخدّج من بني البشر. على «البشر» المتكرّشين من البَطَالة وسفالة الأدوار أحياناً. أشباه بشر أكثر منهم بشراً. بالأداء الشاخص، العالم بمن يتحكّمون في مصيره وجهاته وخياراته هو متاهات لا حصر لها. هو نفسه منفيٌّ عن القلب ومُقصى وعلى انفصال مع الحسّ. الأداء على الأرض لا يدلّ على القلب. يدلّ على الحديد. يدلّ على رَبَذة من المتاهات. أكثر التفاصيل في طريقها إلى المجهول؛ أو يُراد لها ذلك. لا يجتمع نقيضان: متاهة وقلب. لكل وجهة ومسار إلا المتاهة تلتهم المسارات والجهات من دون أن تشبع ضياعاً وإرهاقاً وانهياراً. مسار القلب ووجهته إقامة المائل؛ وخصوصاً حين يكون بين جنبات حُرّ ونقي. لو شققْتَ بعض صدور البشر فلن تجد قلباً في موضع القلب. ستجد نفاية وروائح جثث ونوايا هي ما بعد الظُلْمة. ستجد القبْح كلّه والمتاهات التي صيّرتْ ذلك القبح. وبيد وقلب أيّ واحد منا أن يُقيم متاهته أو يدكّها. كلٌّ له خيار أن يكون في الهيئة والمعنى الذي يريد. البعض منا لا يريد ذلك. يترك لآخرين تولّي الدور والأخذ بتفاصيله. ثم إنه لا متاهة أشدّ أثراً وأكثر إخلالاً بحقيقة الإنسان وقيمة وجوده من متاهة ألاّ تكون له إرادة وخيار فيما يمسُّ مصيره والقضايا الكبرى. مثل تلك المتاهة إذا استتبّتْ لن تتحقق المخارج بفعل الصدفة وبفعل المزاج. لن تتحقق المخارج منها أساساً.

إنسان اليوم لم ينجز ما أنجزه بفعل متاهات تحاصره، بقدر ما هي فضاءات مفتوحة على الابتكار والخلق والإبداع. كل حيّز في العالم اليوم يحتكم في علاقاته إلى الأخلاق والقلب، لن ترى منه إلا الجنّات. على الأقل الجنّات الأرضية ضمن مقاييس نعِيها وندركها ونحيط بها. لا نتحدّث عن جنّات لم نبلغها بعد، وربما لا نبلغها بالأداء الأخلاقي البائس على الأرض!

والمفارقة التي يدركها كثيرون، أن في العالم اليوم أمماً وشعوباً مهمّتها ووظيفتها زرع المتاهات والعمل على تراكمها وتكدّسها. وفي العالم اليوم أيضاً أمم وشعوب مهمّتها ووظيفتها العمل على مطاردة ونفي وإقصاء تلك المتاهات؛ كي لا تشوّش على دورها ومهمّتها الكبرى: أن تجعل هذا العالم أكثر قدرة على أن يتحوّل إلى قلب عملاق يسع الكائن البشري وغير البشري.

كم نحن في الصميم من قلب المتاهة؛ لأننا من دون قلب! كم الآخر في الصميم من هدى قلبه والتمسّك بالخروج الذي لا يعرف المداهنة على كل ما يدلّ على المتاهة.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3764 - الأربعاء 26 ديسمبر 2012م الموافق 12 صفر 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً