العدد 3771 - الأربعاء 02 يناير 2013م الموافق 19 صفر 1434هـ

متى تصبح المحاصصة الإيجابية انعكاساً لمبدأ الجدارة؟

عبدالحسن بوحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ليس تبسيطاً لحجم أزمتنا الوطنية المزمنة ولكنها محاولة لسبر أغوارها في جانب مهم من جوانبها المتشعبة والمعقدة، ألا وهو تطبيق مبدأ الجدارة. فليس أسوأ على الانسان من ازدراء قدراته الذهنية والعقلية لدرجة تصبح هذه الطاقات سبباً في تعاسته. فعندما يتم تعطيل العمل بهذا المبدأ يتحول المجتمع بجميع مؤسساته إلى غابة لا يسود فيها العقل. لهذا السبب حرصت الدساتير والتشريعات العالمية على تضمين مبادئ الجدارة والعدالة لضمان أمنها واستقرارها واكتشاف المواهب والقدرات اللازمة لعملية الابداع والتنمية.

وفي مملكة البحرين ينص الدستور في مادته رقم (4) على ان العدل أساس الحكم وأن الحرية والمساواة... وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة. كما تنص المادة (16) والمادة (18) على تساوي المواطنين في تولي الوظائف العامة وفي الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. وقد عكس قانون الخدمة المدنية هذه النصوص الدستورية بنصه على مبدأ الجدارة من خلال المنافسة وآلية الاختبارات الوظيفية.

يعتقد الكثير منا أن مبدأ الجدارة هو نقيض لمفهوم المحاصصة الذي ارتبط سلباً في أذهاننا بكونه يكرس تقسيم المجتمع على أسس فئوية أو عرقية أو دينية أو مذهبية ويلغي مبدأ المواطنة. وعلى رغم وجاهة هذا الاعتقاد إلا ان الأخذ به بمعزل عن طبيعة تكوين المجتمع يعتبر تبسيطاً للمفهوم يعكس مثالية جامدة تساوي في نظرتها بين المجتمعات البشرية التي تتشكل غالبيتها من فئات ذات خلفيات متعددة ومختلفة بلغ بعضها مرحلة من النمو والوعي بضرورات التسامح والتعايش وتهيأت له الظروف والتجارب لتطبيق مبدأ الجدارة بغية المحافظة على توازن المصالح بين مكوناته وفقاً لمبدأ المواطنة المتكافئة من دون المساس بخصوصيات هذه المكونات. في حين فشلت بعض المجتمعات، لأسباب تاريخية وثقافية وحضارية وسياسية قد تكون خارجة عن إرادتها، في تطبيق مبدأ الجدارة وفقاً لمفهوم المواطنة المتكافئة لدرجة أصبح مبدأ المحاصصة هو الخيار الأصلح البديل لتجنيب المجتمع مخاطر الاحتراب والتقسيم. لهذه الأسباب برز مفهوم بديل للمحاصصة التقليدية هو مفهوم المحاصصة الايجابية الذي يحافظ على مصالح جميع مكونات المجتمع وفقاً لكثافتها الديموغرافية، مع الأخذ بمبدأ المنافسة بين أفراد كل مكون لضمان الجدارة وكفاءة الأداء. وهناك نماذج متعددة من مجتمعات متعددة اثنياً ودينياً كالاتحاد السويسري وكندا والولايات المتحدة الأميركية التي حولت تنوعها الى طاقة بناءة وفقاً لهذا المفهوم، على رغم ما حملته هذه المجتمعات من يافطات مختلفة كلوحة الموزاييك في كندا أو علبة الانصهار المجتمعي في الولايات المتحدة الأميركية.

وعلى مستوى الواقع العملي، يعتبر تطبيق مبدأ الجدارة عملية معقدة وشاقة حتى في المجتمعات الديمقراطية بسبب ما يتطلبه هذا التطبيق من مؤسسات تشريع فاعلة، ونظام قضائي مستقل، وآليات تنفيذ معقدة، وأجهزة رقابية مستقلة ومحايدة، وآليات شفافة للمحاسبة والمساءلة، وبيئة مهيأة سياسياً وثقافياً وحضارياً لتقبل مبدأ المشاركة والتعايش والتسامح.

كما يعتبر تطبيق مبدأ الجدارة عملية أكثر تعقيداً وشبه مستحيلة في المجتمعات القبلية والحزبية الشمولية التي تولي أولوية للانتماءات القبلية والعائلية أو الحزبية في توزيع المنافع والثروة والنفوذ. ولمزيد من الايضاح نستعرض بإيجاز تجربة دولة ديمقراطية وصناعية كالولايات المتحدة الأميركية. فعلى رغم مرور أكثر من قرنين على صدور الدستور الذي نص على مبادئ الحرية والمساواة، فإن التمييز على أساس اللون والعرق، وغياب مبدأ الجدارة كان سائداً حتى بعد انتصار حركة الحقوق المدنية التي قادها القس مارتن لوثر كنغ قبل خمسين سنة. لهذه الأسباب تبنت الولايات المتحدة الأميركية آلية تضمن من خلالها للأقليات المهمشة من أصول افريقية واسبانية وغيرها حصة من حقوقهم الوطنية سواء في التعليم، أو التوظيف، أو التدريب، تستند على كثافة تواجدهم السكاني. وقد أطلق على هذا النظام «برنامج تكافؤ الفرص والمساواة في العمل».

وقد أتيحت الفرصة لكاتب هذا المقال للاطلاع على آليات المراقبة والتدقيق على تنفيذ هذا البرنامج في المؤسسات الفيدرالية. ويستند هذا البرنامج على نظام المحاصصة الايجابية الذي يخصص بموجبه لكل فئة إثنية نسبة من الوظائف بجميع مستوياتها وذلك وفقاً لنسبتها السكانية. وتخضع عملية شغلها للمنافسة بين أفراد كل فئة وذلك لضمان الجدارة والكفاءة بين المتنافسين. كما تخضع فرص التدريب لهذه المعايير ذاتها لضمان حصول مختلف الفئات على فرص التأهيل اللازمة لتمكينهم من المنافسة في اختبارات الجدارة. وهذا النمط من نظام المحاصصة لا يفعّل فقط مواد الدستور التي تنص على العدالة والمساواة بل يحقّق مبدأ الجدارة داخل الفئة الواحدة ضمن الحصة المخصصة لها، ومن ثم على المستوى الوطني لجميع فئات المجتمع. وهذا النظام، بالإضافة إلى جوانبه القانونية والسياسية، أتاح للمجتمع الأميركي فرصة للاستفادة من جميع الطاقات العلمية والإبداعية في مجال الصناعة والفن والأدب وغيرها من حقول المعرفة التي تتمتع بها مختلف فئات المجتمع.

وهذا مكّن الولايات المتحدة الأميركية من المنافسة في القطاعات الاقتصادية والابتكارات العلمية، وأتاح لفئة كبيرة من ذوي الأصول الافريقية خصوصاً، فرصة للمساهمة في تطوير بلادها وتبوأ مناصب قيادية متقدمة وصلت إلى قمة الرئاسة الأميركية. ويعبر كثير من الأميركيين عن امتنانهم لنظام المحاصصة الايجابية الذي لم يكن بوسعهم من دونه نيل فرص متكافئة في جميع المجالات وذلك بسبب هيمنة وطغيان الأغلبية التي لم تدع مجالاً للقوى المهمشة للحصول على فرص التعليم والتدريب اللازمة للمنافسة على رغم المستوى المتقدم الذي بلغته الديمقراطية الأميركية.

وفي مملكة البحرين كانت لنا تجربة متواضعة بعد الاستقلال هي أقرب لمفهوم المحاصصة التقليدية استندت على مبدأ غير مكتوب تم تطبيقه على مستوى المناصب الوزارية، وهو ما عرف بمعادلة الثلث التي وزعت المناصب الوزارية بين الطائفتين والأسرة الحاكمة الكريمة على أساس الثلث لكل مكون. وهذه المعادلة هي في الواقع محاصصة تقليدية لكنها اعتمدت على آلية تعيين أفرزت بعض الكفاءات من التكنوقراط التي تطلبتها مرحلة بناء الدولة. وقد تعرضت هذه المعادلة للتغيير وفقاً للتقلبات السياسية في الداخل والخارج حتى وصلت إلى الوضع الذي نحن فيه الآن. وبإمكاننا الاستنتاج جازمين أن التخلي عن هذا النوع من المحاصصة هو واحد من الأسباب التي ساعدت على اتساع الفجوة بين مكونات المجتمع وأوصلتنا إلى عنق الزجاجة الذي انحشر الجميع فيه. وهو كذلك السبب ذاته الذي عصف بالمجتمع الأميركي ومهد لحركة الحقوق المدنية التي انتشلت المجتمع من خطر التفكك والانهيار. فعندما يعطّل مبدأ الجدارة ومفهوم المحاصصة في آن واحد يسود الاستئثار وتصبح الفوضى هي البديل في المجتمع.

لقد أثبتت التجارب انه ليس بوسع أية دولة أن تبحث عن حل لأزمتها في مسبباتها وذلك بزيادة جرعات هذه المسببات التي من بينها وضع «فيتو» غير مكتوب على حق العمل أو إلغاء المحاصصة، أو تعطيل مبدأ الجدارة حتى على مستوى الفئة الواحدة والاستعاضة عنها بمعايير بديلة تعطى عناوين مختلفة كمصطلح الولاء الذي يقاس بحجم استعداء الآخر وعلو نبرة الاستعداء حتى وإن خلف ذلك آثاراً عكسية ضارة على الدولة والمجتمع، أو بتجاهل حقيقة أن كفاءة العطاء والأداء والاخلاص في خدمة الوطن ومؤسساته هي المعيار السليم لقياس معدل الولاء. فتجاهل هذه الحقائق لن يتمخض عنه سوى انحدار في مستوى الخدمات وكفاءة الأداء بالاضافة إلى التأثيرات السياسية الضارة.

من الواضح ان الهيكلة السياسية للمجتمع البحريني لم تكن مهيأة تاريخياً لتطبيق مبدأ الجدارة على رغم ما نص عليه ميثاق العمل الوطني والدستور. إلا أنه بإمكاننا تخفيف التشنج في وضعنا السياسي المعقد بالتأمل الصادق والجاد في مسببات هذا التشنج، والتي من بينها الحاجة إلى إعطاء الانسان بعضاً من الأمل المفقود في تكوين ذاته، وبإتاحة الفرصة له للتنافس وإبراز مواهبه وطاقاته لخدمة وطنه.

وفي غياب الإرادة والقدرة على تطبيق مبدأ الجدارة كما نص عليه الميثاق والدستور، يبقى الحل كامناً في محاصصة إيجابية تعكس بعضاً من مفهوم الجدارة، هو الحل الذي جرّبته دول أخرى غيرنا فأعطى لمجتمعاتها تماسكه وأعاده إلى سكة التنمية والبناء. فالبديل لهذين النموذجين هو التهميش والاستئثار، وهو البديل الذي لم يساهم إلا في تأجيج أوضاعنا.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"

العدد 3771 - الأربعاء 02 يناير 2013م الموافق 19 صفر 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 8:14 ص

      المواطن والإنسان

      لم تكن المحاصصة القديمة صحيحية ولا نتاجها، لتأتي لنا بمحاصصة جديدة، حتى وإن أسميتها بالإيجابية، ففحواها تقسيم البحرين الى كنتونات أولها ديني وتتفرع الى مذهبي، نتاجها فيدرالية سمجة مشوهة منقسمة الى مساحات إسلامية وأديان أخرى تنحدر منها المذاهب المختلفة لكل دين وهناك اللا طائفيين وهناك وهناك. مما يقود الى التشرذم الإجتماعي وربما يدفع الفئات الى تعدد الزوجات وربما الزواج غير الشرعي في سباق التوالد لإكثار عدد أفراد الفئة، والمحصلة صراع لا آخر له، ليتك صِهْتَ ولم تنطق باطلاً.

    • زائر 5 | 6:47 ص

      شوية حياء

      عيني عينكًهكذادون رتوش؟ تريدون محاصصة طائفية اليوم ؟ هل هذه احدى مكاسب ثورتكم ؟

    • زائر 3 | 2:08 ص

      سقطت الاقنعة اخيرا

      بح صوتنا ونحن نقول حاسبوا من هؤلاء الطائفيين ، خاصة يوم امسكوا مراكز حساسة ولعبوا لعبتهم في التوظيف والترقية ، الحمد لله اخيرا سقط اخر قناع صرنا مححاصصة اخر العمر ، بارك الله فيك

    • زائر 2 | 1:12 ص

      هم لا يبحثون عن حلّ والا فالحلول كثيرة

      من يبحث عن الحلول سيجدها من هنا او هناك ولكن من يبحث عن التأزيم فذلك وضع يختلف.
      الحلول كثيرة والمخارج اكثر ولكن هناك من لا يريد حلا لهذا البلد بل على العكس يريد ارجاع الوضع الى اسوأ مما كان عليه والدليل ان حتى بعض الخطوات التي اتخذها ولي العهد محاولة منه لاصلاح بعض الامور التي وجدها تحتاج علاج فوريا ولكن ما إن حصل ما حصل حتى وجدنا كل محاولات ولي العهد انقلب عليها
      وهدم ما كان مبني

    • زائر 1 | 12:58 ص

      سقطت الاقنعة اخيرا

      بح صوتنا ونحن نقول حاسبوا من هؤلاء الطائفيين ، خاصة يوم امسكوا مراكز حساسة ولعبوا لعبتهم في التوظيف والترقية ، الحمد لله اخيرا سقط اخر قناع

اقرأ ايضاً