العدد 3817 - الأحد 17 فبراير 2013م الموافق 06 ربيع الثاني 1434هـ

نحن أبناء الفوضى وهم رحلة الشتاء والصيف!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

نملك الكثير لنقوله ونفعله أيضاً في هذه الفوضى التي أصبحت نظاماً. الفوضى لا تملك غير أن تكون فوضى. تلك موهبتها في الحياة. أن تُخرّب وتنسف وتُقلق بشكل رديء كل ما ومن حولها. نملك تعرية وكشف هشاشة الذين توهّموا أنهم نماذج للأساطير، بقدرتنا على أن نكون واقعيين وبإرادة فولاذية وأحلام مجنونة يجب ألاّ ننساها لكي نربك الجامد والثابت والمؤبّد والمُكرّس. لسنا خِرافاً في حظيرة تكون موضوع هدْي أو موضوع ضيافة هي عناوين للإسراف والاستعراض. لسنا من سكّان كوكب وُجد في المجموعة من طريق المصادفة لنلتحق بتلك المصادفة. لسنا زائدة دودية يجب استئصالها بعد التهاب، ولسنا تكملة عدد في مباريات الحارات والأزقة. نسهر لا لنلهو. نسهر لنعيد ترتيب ملامح وعصَب الصباح الذي سيجيء.

في العشر... في الثلاثين... في الخمسين... في الستين من الوجع أو العمر لا يحول كل ذلك دون رفع سبّابة حاكمة بتفويض من ضمير لم يمتْ بعْدُ أمام هتاف يطالب بمزيد من الموت واليتْم وترميل الحياة بكل أطرافها وعلاقاتها.

تصدح موسيقى الشماتة ببدائيتها وخلاعتها أيضاً فرحاً بإنجاز موت ضروري وله خططه الخمسية والعُشْرية، ولا يتردد الملحّن والمؤدّي في السجود لإلهه شكراً. إلهه الذي بالتأكيد لن يكون إلهاً لعبيد بهذه الأريحية من الانقياد والتوقيع على بياض والامتنان للإهانات التي تمارس عليهم وتطالب بالمزيد!

لن نكون مشغولين بكتاب السراب. عيننا على المطر الذي لن يخذلنا؛ على رغم الاحتباس السياسي والأخلاقي والحقوقي قبل الحراري. لن نكون مشغولين بالجثث. لا نرى في روائح الجثث عطراً كي ننحاز إليها. لن نكون مشغولين بالرماد وبإمكاننا خلق حقول الورد في ذروة اليباب المصطنع، والحرائق التي لا تكاد أن تشبع أو تنتهي. لا معدة للجحيم. لن نكون مشغولين بالذين يرهنون وهْم الشرف عندهم في سبيل أعطيات وما تبقى من فضلات الموائد التي من المفترض أن تكون في مكانها الطبيعي: المزابل؛ ولكن بعضهم يجد في نفسه مكاناً أولى وأرحب من تلك المزابل!

تسبّب لك الغثيان الخطابات الرسمية التي بسْملتها: أيها الشعب العظيم. الشعب الذي يُهان كتوقيت تناول العقاقير التي يتعاطاها الموغولون في الألم والهذيان والهروب مما حولهم، قبل الأكل وبعد الأكل، وقبل النوم وبعد النوم.

الأمم التي تحتاج إلى قتَلَة وجزّارين وقاطعي طرق ولصوص ومرتشين ومعقّدين ومرضى في مرحلة ما بعد اليأس، لا تستحق الحياة ولا يمكن أن تُترك كي تلوّث الحياة وتسمّمها. على أقل تقدير أن تكون بمنأى عمّا له ارتباط بكل الأجناس والأنواع، ومن حقها في جانب إنساني أيضاً أن تكون على ارتباط بالشبيه لها قلباً وقالباً مادامت في محميّات مُغلقة لا تصلها حتى الأشياء التي تمنحنا الكثير من القيمة والمعنى.

نملك الكثير لنقوله ونملك الأكثر لنفعله حين لا نكون مُرتهنين للذين لا يحيوْن إلا بذلك الارتهان؛ لأنهم لا يُحسنون صنْعاً في الحياة إلا بمطاردة النسب المئوية في صحة الأفراد وأرضهم. حيويتهم وعجزهم. أملهم ويأسهم. قوتهم وضعفهم. طول قاماتهم وقِصَرِهم. أفراحهم وعزائهم.

الأمم التي تحتاج إلى فرائس من أبنائها لم يُخبرها أحد أننا في العام 2013، وأن الغابات والكهوفَ والمضاربَ وأندية القمار بالدم من المفترض ألاّ مكان لها في ظل مدن لها من ملامح السماء ورائحتها الكثير كمكة والمدينة والقدس وغرها من مدون الله، وكل بقعة فيها من طيب روح وقيمة ومعنى صاحبها، ممن نافح عن الحياة، من دون أن نغفل أيضاً عن النظر إلى مدن فيها من المناورة والاستغلال والأنانية وأيضاً احترام الإنسان وحقوقه، واعتبار قدراته وطاقاته وإبداعه بغضّ النظر عن لونه ولغته ودينه وجنسه، وإن لم تتخلص من عقدة اللون والعم سام والمقابل له «حام»؛ أو هكذا يراد. من نيويورك مروراً بباريس وليس انتهاء بقلقيلية، وما تبقّى من الهَمَلَة.

نعلم أن الحياة لن تنتظر أحداً في حركتها، والمستقبل ليس موظف استقبال يُطلب منه أن يبتسم ولو غصّت روحه بالوجع والدم؛ ونعلم أن الخيبات سمّ يومي في الحياة؛ لكن ذلك لا يعني أن نترك الحبل على الغارب للذين لا يجدون هندسة إلا في الخراب، ولا يجدون حيوية إلا بعجز كلي أو شبه كلي في المحيط الذي قُدّر لهم أن يكونوا أوصياء عليه، ولا يجدون إنجازاً وأحلاماً يمكن أن تتحقق إلا بتحويل أوقات الناس إلى عدم أو كوابيس، ولا يجدون بُدّاً من أن ينتصروا لكل موهبة وطاقات الخراب التي تعجّ بها أنفسهم وأرواحهم.

يستبدّ بنا المتخلّفون والوشاة والفاشلون والمتملّقون والمتسلّقون، والذين لا حظ لهم من قيمة أو شرف أو كرامة أو ضمير أو حسّ. كل أولئك باتوا اليوم ضرورة في أكثر من واقع يُبعد الشريف ويدني الوضيع، ويتقرّب إلى الأحمق ويقصي الحليم، ويخطب ودّ من لا أصول ولا جذور ولا امتداد له، على حساب الذي هو في اللبّ من الأصل والجذر والامتداد. لا شيء يغري على الثقة بهذا الواقع المريض. كل شيء يدفع بك دفعاً إلى استحضار الظن الذي لن يكون إثماً في مثل واقع كهذا؛ بل على العكس نفيك للظن إثم مركّز له كلفته في هذا السياق من الجنون.

وبالعودة إلى الفوضى التي تصدّرت هذا المقال، يُراد لنا أن نكون أبناء لها، في اتهام تطلع به علينا من توهّمتْ أنها في قائمة وسائل الإعلام، لا الإظلام والتغييب، وهي أقل شأناً من جلسة وشاية ونميمة على شاي الضحى أو العصر، بكل ما تحمله من تحضير حقد وكراهية ونفي وتسفيه وتسخيف وتخوين وإلغاء، ولن نتردد في التساؤل: عن أي «خبْطة رأس» وجلطة مخ يتحدث أولئك؟ إذا كنا أبناء الفوضى فماذا نسمّي هذا الانحطاط اللاأخلاقي واللاقيمي الذي وجدنا أنفسنا محاصرين فيه؟ رحلة الشتاء والصيف مثلاً؟ أو ربما حملات تطعيم ضد السعال الدّيكي وشلل الأطفال؟ ربما.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3817 - الأحد 17 فبراير 2013م الموافق 06 ربيع الثاني 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 6:59 ص

      لا اكثر ايلاما من الفقرة قبل الاخيرة

      هذه الفقرة تختصر وجعا ممتدا في الزمن ومتوغل في اس البلاء الذي يراد لنا ان نستمر فيه بدعاوى المواطنة الحقة والتي هي في الحقيقة رق مؤبد يستمرؤه بعضهم ويرفضه اكثر البشر مهما حمل من اوسمة وعطايا.. يعملون للحق ولو جر الويلات اليهم..لانهم واثقون من الاتي وواثقون من ادميتهم وصفاء روحهم وضميرهم.

    • زائر 5 | 4:03 ص

      سلمت يمناك

      نعم لسنا شرذمة بل مكون لهُ تاريخ عريق في النظال السلمي قدم تضحيات و لازال يقدم للوطن

    • جعفر الخابوري | 11:26 م

      شكر لكم

      صباح الثقافه صباح الكلام الجميل المعبر عن راي الوطن شكر لكم

    • زائر 2 | 11:22 م

      انصحهم بقراءة المقال

      صباحك بلسم الجروح ايها الكاتب الجميل , مقال رائع واتصدق به على اولئك المنبطحون والقابعون فى البروج العالية والذين لا يعرفون الالوان ولا يعرفون الباسقات ..اتصدق عليهم وانصحهم بقراءة هذا المقال الذى اختزل كل الاهات والمعانات وكل القيم والاخلاق .

    • زائر 1 | 11:17 م

      رحم الله

      الحمد لله جحا أدري بداره العرق دساس لأنه طلع بعد الإسلام 50 سنه

اقرأ ايضاً