العدد 3834 - الأربعاء 06 مارس 2013م الموافق 23 ربيع الثاني 1434هـ

إنما يجلسُ الرجلُ حيثُ يَنتفِع

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

جاء في «الطبقات الكبرى» لأبي عبدالله بن سعد البغدادي، أن «عليَّ بن الحسين، قد زوَّج ابنته من مولاه. وأعتَقَ جاريةً وتزوَّجها. فكَتَبَ إليه عبدالملك بن مروان يُعَيِّره بذلك فلمْ يُجِبْه. وكان يُجالس أسلم مولى عمر بن الخطاب، فقال له رجلٌ من قريش: تَدَعُ قريشاً وتُجالس عَبْدَ بَنِي عديّ؟ فقال علي بن الحسين: إنما يجلس الرجل حيث ينتفع». انتهى.

هذا المأثور جيَّد أن نبدأ به هذه المقالة ونحن في نهاية الأسبوع، مُبتعدين عن هموم السياسة وأسقامها. فنحن البشر وفي أحيان كثيرة يغيب عنا أننا «نِسْبيُّون». فنحن لا نملك كلّ شيء، ولا نعلم كلّ شيء، ولا نتحيَّز على كلِّ شيء ولا نسمع كلّ شيء. رَمْيُنا محدود وبصرنا محدود، وشمّنا وسمعنا وتفكيرنا وخطانا كلها محدودة أيضاً. وبالتالي، يجب أن ندرك في كل لحظة من لحظاتنا التي نمارس فيها سلوكاً مادياً أو ذهنياً «محدوداً» أننا كائنات نِسبيَّة؛ لكي نبقِي على جذوة ذلك الشعور حاضرة، فلا نجنح صوب «نرجسية» مصطنعة بائسة.

ولأننا نِسْبيُّون، فإننا محتاجون لكل شيء قادرٍ على جعل ذلك المحدود الذي بداخلنا أكثر اتساعاً. فمن يُرِدْ أن يُبصر جيداً لزِمَ عليه أن يستخدم نظارة تجلس على مِنخَرَيْه. ومَنْ أراد أن يطوي الأرض بسرعة تزيد عن سرعة قدميْه، فعليه أن يستخدم دابةً من الدَّواب الحديثة. أكثر من ذلك، فإن حاجاتنا لما هو مُكمِّلٌ لقدراتنا المحدودة، تنسحب كذلك على حاجة الإنسان لأخيه، وبالتالي فليس الأمر متعلقاً بحاجته لأسباب ووسائل مادية فقط.

فعالِم الطب الحاذق، الذي ذاعَ صيته في كل مكان، وبَرَأَ عشراتُ المرضى على يديه، يحتاج إلى عامل صغير، يُصلِح له سيارته إن هي تعطّلت في الشارع، أو إلى مَنْ يُناوله مقصاً أو ورقة أو يُسلِّمه مظروفاً يتضمَّن إنجازاً طبياً. والمهندس المعماري الذي شَيَّد بإبداعه الفريد، أجمل مباني العالم المشهورة التي يقصدها السياح، هو محتاج إلى مَنْ يوفِّر له قلماً ومسطرةً وورقة، أو لمَن ينصب له سُلَّماً يتكئ عليه عند معاينته لهيكل البناء.

نحن نرى في كل يوم، كيف أن صيَّادي السمك أو بائعيه يقصدهم الجميع، من طبيب ومهندس وعالم دين وكذلك أصحاب الذوات والجاه. كما أن هؤلاء جميعاً، لم يكونوا يوماً قادرين على الاستغناء لا عن السَّبَّاك ولا عن الخرَّاز ولا عن الزرَّاع ولا عن عامل البناء، بل وعن جميع مَنْ لهم مهنةٌ مرتبطٌ نشاطها بحياة الناس اليومية والمستمرة.

والحقيقة، أن كل هذه النماذج التعاضدية، ما هي إلاَّ دليلٌ على مدى حاجة الناس إلى بعضها، مهما عَلَت أو نَزَلَت مراتبهم الاجتماعية والمهنية، من باب «عرفتَ شيئاًً وغابت عنكَ أشياءُ». وهو أمرٌ يقودنا إلى النظر والتفكر في مدى حاجة عقول البشر لغيرها. فالمعادلة الصحيحة تقول: مَنْ أراد أن يُفكِّر جيداً فعليه أن يستفيدَ من عقول الآخرين، التي شاهدت ما لم يُشاهده، وسمعت ما لم يسمعه، وقرأت ما لم يقرأه، والتي لديها ما ليس لديه. فالعاقل هو مَنْ جَمَعَ عقول الناس إليه.

في إحدى المرات، جلستُ في أحد المحافل الاجتماعية العامة، وجَلَسَ إلى جانبي رجلٌ كريمٌ ممن لم يحظوا بتعليم وافر (بسبب ضيق الحال) يستطيعون من خلاله أن يُجاروا ما هو موجودٌ اليوم من سيولة معلوماتية لا نظير لها.

لكنني وخلال جلسة التحادث تلك، لم أجِد أحداً ممن كان حاضراً في ذلك المحفل، إلاَّ وقد شنَّف بسمعه نحو ذلك الرجل، وهو يتحدث في «مجال عملي» له بواطنه وأسراره، ويعمل هو فيه منذ أربعين عاماً، فلم يغنِ أحدنا ما لديه من تعليم ولا بحثٍ ولا متابعة الصحف والإصدارات من أن يجاري ما لدى ذلك الرجل، الذي يعتقد كثيرون أنه قليل الحظ في العلم. وهذا هو التعالي الأحمق بعينه.

أتذكر هنا كتاب تشارلز داروين المسمَّى بـ «التعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوانات»، والذي ظهر في انجلترا العام 1872. وهو في الحقيقة، كتاب ثمين جداً. ورغم أن داروين هو عالِم تاريخ طبيعي، ومُنشِّئ نظرية التطور والنشوء، إلاَّ أنه لم يستطع أن يُتِمَّ بحثه دون الرجوع إلى أشخاص بسطاء صادفهم ورَجَعَ إليهم لإتمام بحثه، أو باستعانته بأفراد لم يكونوا يملكون سوى صور مختلفة لحيوانات، كان يتطلب وجودها البحث، لوضع شروحات سيكولوجية خاصة بالحيوانات، ومقاربتها مع مشاعر بني البشر.

في أحيان كثيرة، تغرينا سنوات دراستنا وتعلُّمنا وقراءاتنا عن الاستماع لأشخاص لم يحالفهم حظ الدنيا البائس في أن يحصلوا على تعليم جيد، لكنهم عوَّضوا ذلك بخبرة الحياة، التي نالوها بالمشقة والعرق. ولأن الحياة بالنسبة لمن حاربوا وخاطروا بكل شيء لها نكهة خاصة يستحيل على من يتمتعون بالحماية أن يشعروا بها، كما قال ستيوارت ميل، فإنك ترى ما يقولونه مسبوكاً بدراية وبيقين وبحكمة السنين والعرق.

هنا، جديرٌ أن أورِدَ هذه الرواية التراثية قبل أن أضَع نقطة الختام، وقد وَرَدَت في محاضرات الراغب. تقول الرواية: أن سقَّاءً دَنَا من فقيهٍ واقفٍ على باب أحد السلاطين، فسألهُ عن مسألة، فقال الفقيه مستنكراً: أَهَذا موضع المسألة؟ فرد عليه: أوهذا موضع الفقيه؟! وأمام هذا الرَّد البليغ من سقَّاءٍ بسيط، على فقيه يحجُّ إليه الناس، فرصة للتفكر في ذواتنا والآخرين بصورة صحيحة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3834 - الأربعاء 06 مارس 2013م الموافق 23 ربيع الثاني 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 8:01 ص

      تذكرت هذه الأبيات من كنوز الادب العربي بعد قرآة المقال السهل الممتنع

      الناس للناس من بدو و حاضرة **** بعض لبعض و إن لم يشعروا خدم --- أبو العلاء المعري
      و لما رأيت الجهل في الناس فاشيا *** تجاهلت حتى ظن أني جاهل --- أبو العلاء المعري
      فقر الجهول بلا عقل إلى أدب *** فقر الحمار بلا رأس إلى رسن --- المتنبي
      ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** و أخو الجهالة في الشقاوة ينعم --- المتنبي
      كم يرفع العلم أشخاصا إلى رتب *** و يخفض الجهل أشرافا بلا أدب --- الإمام الشافعي
      إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا *** أصبت حليماً أو أصابك جاهلُ

    • زائر 11 | 8:00 ص

      انسان

      اشعر و أنا أقرأ مفالاتك . . . . . أنك تعبر عما بداخلي بطريقة علمية رائعة . . . . . أتمنى أن نلتقي يوما لنتبادل الأفكار يا صديقي

    • زائر 8 | 6:00 ص

      كلام جميل والأجمل تخاف منه يا عزيزي

      أستاذ محمد لتعذرني مكانك ليس في صحيفة الوسط التي تضج بكتاب يعيشون الألم مع الشعب ويكتبون بصريح الكلمة لا أن تنقل لنا روايات من آخر الدنيا ونحن نعيش الألم وجرحنا ينزف بغزارة
      مع السلامة

    • زائر 14 زائر 8 | 10:11 ص

      للزائر رقم 8

      الروايات التي ترفضها أنت تسمعها كل يوم على المنابر وتبكي من أجلها . يعني فيها فائدة كبيرة فارجوك لا تنتقص من الروايات فهي جزء من تراثك وموروثك الذي حفظ لك هويتك وكيانك .

    • زائر 6 | 2:06 ص

      الحق والحقيقه

      اعترف بأنني اخرج من كل مقالة لك بشئ اما اجهله او ادخل مكتبتي المتواضعه لأستزيد عن امر دكرته بشكل سريع . شكرا لك يامن لاتكتب ال بعد ان تجلس وتبحث لكي يخرج القارئ بشئ مفيد .

    • زائر 5 | 1:59 ص

      نعم الخيار يبوعبدالله

      ماحوجنا نحن البشر اللاهث وراء المفالات السياسيه الى مثل هذه المفالات الجميله كل ماتمنه منك يالغالي ان تكون سنه حسنه في نهاية كل اسبوع وكل اسبوع والاقلام النزيهة بالف خير

    • زائر 4 | 1:57 ص

      بارك الله فيك

      أعجبني المقال كثيرا

    • زائر 3 | 11:54 م

      غاية المقال نهايته

      خير خاتمة لمقال جميل والأجمل كاتبه فهل يصر القارئ على أن يكون
      أجل الاثنين

    • زائر 2 | 11:20 م

      من المتابعين

      بارك الله فيك من متابعينك دوما لكن مع الأسف الشديد تمنيت أن أقرأ لك مقالة واحده عن الشأن المحلي منذ سنتين لكن لم أجد حتى في تويتر تغرد عن سوريا و إيران و تنقل أخبار لكن ولا تغريدة عن البحرين فهل هذا عدم إهتمام بالشأن المحلي أم خوف

    • زائر 9 زائر 2 | 7:30 ص

      انا اعتقد...وانا محب للكاتب..رايته مرة واحدة فقط..

      انا اعتقد انه عقل صائب....حينما تمسك رايك حيث ترتفع الاصوات ولا احد يسمعك...حيث الكلام حينئذ يكون رخيصا..والعاقل لا يرخص كلامه...وللكاتب الحق في حفظ رزقه ايضا وهذا ليس خوفا...

    • زائر 1 | 11:01 م

      نعم

      جميل

اقرأ ايضاً