العدد 1517 - الثلثاء 31 أكتوبر 2006م الموافق 08 شوال 1427هـ

الجانب الآخر من شخصية الممثل الهزلي بيتر سلرز

نبيل عبدالكريم comments [at] alwasatnews.com

.

قصة حياة الممثل الهزلي البريطاني بيتر سلرز التي صورت في فيلم سينمائي عنه كشفت ذاك الجانب الغامض من شخصيته. فالمشاهد لا يصدق أن هذا الممثل الذي أتحف الناس بخفة ظله على الشاشة كان يملك شخصية تعيسة لا صلة لها بذاك الشخص الذي احترف مهنة إضحاك الناس وتسليتهم.

هذه الازدواجية غريبة من نوعها ولكنها كما يبدو تصبح طبيعية حين نغوص في عالم الإنسان الداخلي وذاك الصراع الذي يحيط به وتلك الخصوصية التي تتحكم بتصرفاته وأحلامه وطموحاته. الإنسان أحياناً يظهر على عكس ما هو. وأحياناً تضطره الظروف إلى تقمص شخصية أخرى مخالفة لرؤيته ونظرته إلى الدنيا.

عادة ينظر الناس إلى البشر من الخارج ويحكمون عليهم من خلال تلك الشخصية المكشوفة. وكثيراً من الحالات أثبتت التجارب أن سيرة الإنسان الحقيقية ليست بالضرورة متطابقة مع حقيقتها. فالواقع شيء والمثال موضوع آخر. فهناك الكثير من الوجوه تظهر على مسرح الدنيا بسحنة جادة وقاسية وعابسة بينما هي في حقيقتها تكون لطيفة ومرحة وتحب الحياة وتبتعد قدر الإمكان عن ذاك المجال المأسوي. وهناك في المقابل الكثير من الوجوه تظهر على الناس في مشاهد عابثة ولاهية وسطحية بينما هي في واقع الحال تتسم في سلوكها اليومي بالشدة والصرامة والوجوم الدائم.

هذا التناقض يكتشفه المشاهد منذ اللحظات الأولى لذاك الفيلم الذي تحدث عن حياة ومماة بيتر سلرز. فالشريط ينظر إلى هذا الممثل الذي أضحك الناس بأفلامه من موقع آخر. فهذا الشخص كان في وضع بائس ويائس واضطرته الظروف إلى تقمص تلك الشخصية الهزلية لتأمين رزقه الذي فاض عليه وتحول إلى مليونير في وقت كان يطمح إلى لعب أدوار أخرى لم تقنع المخرجين تقديمها إليه.

الظروف الموضوعية إذاً لعبت دورها في اخضاع طموحاته. كذلك حاجته للعمل فرضت عليه التكيف مع أدوار برع فيها ولكنه كان دائماً يرفضها ويتمنى ان تعطى له تلك الأدوار الجادة.

إلا أن هذا النجاح في جانب والفشل في جانب آخر شكل لهذا الممثل الذي توفي ثمانينات القرن الماضي نقطة توتر في حياته العاطفية وحالات دائمة من القلق مع أسرته وزوجته (زوجاته لاحقاً) إضافة إلى محيطه وصولاً إلى والده ووالدته.

المأساة كانت تحيط بهذا الممثل وبقيت في صندوق إلى أن رحل عن الدنيا وفتح الصندوق وأخرجت الأوراق السرية إلى شاشة السينما.

ماذا تقول سيرة سلرز؟ ولد هذا الطفل في أسرة متوسطة الحال يرعاها الأب البسيط الذي فشل في تحقيق أحلامه. وبسبب قلة النجاح وضعف الحظ وعدم وجود شجاعة لديه للدفاع عن مصالحه ارتسمت شخصية الأب الفاشل في حياة الطفل. هذا جانب من أزمته. الجانب الآخر والدة الطفل القوية التي تتحكم بالأسرة وتسيطر على الأب وتديره كالخادم وبالأسلوب الذي تريده. فهذه الأم كانت قوية مع زوجها وضعيفة مع ابنها الطفل والمراهق والشاب وأخيراً الرجل.

سيلرز كان الرجل المدلل عند أمه. وبسبب ضعف شخصيته المتأثرة بوالده نجحت الأم في التحكم به ودفعه بقوة نحو النجاح والتصدي والصمود ومواجهة الصعوبات وعدم التراجع أو الاستسلام للضغوط والفشل.

الأم صنعت ابنها ورسمت حياته وحددت له معالم طريقه نحو النجاح والتفوق. والسبب انها كانت تخاف عليه وتتخوف من أن يتحول إلى نسخة فاشلة من والده. فالأم لا تريد تكرار المأساة. ولا تريد ابنها أن يكون على مثال زوجها. وهذا ما حصل عن طريق الدفع والقوة المصطنعة التي لا يتمتع بها الابن ولكنه أجاد لعب دورها بتشجيع من الأم.

هذا الجانب العائلي يكشفه الفيلم بقوة. مضافاً إليه الجانب الآخر وهو يتجاوز شخصية سلرز المهزوزة. فهذا الممثل ليس وسيماً ولا يتمتع بتلك الجاذبية المطلوبة من المخرجين لتقديم شخصياتهم المصورة التي تتوجه إلى المشاهدين.

الشكل لعب دوره في تحطيم طموحات سلرز. وبسبب شكله تحولت علاقته مع قطاع السينما (شركات الإنتاج) إلى مشكلة. فهو ممثل بارع وطموح ويجيد لعب كل الأدوار ولكن الشكل (المنظر الخارجي) أحبط آماله وأحلامه وتحول إلى حاجز نفسي يعطل عليه التقدم في مضمار آخر غير أدوار الشرطي السري الغبي (غلوزو) الذي يضحك الناس بحركاته البهلوانية والمسلية.

كل هذا انعكس على حياة هذا الممثل، فكان أسير الصراع الخفي بين الأب والأم، وأسير علاقات التجاذب السلبية والإيجابية بينه وبين الأم، وأسير الشكل الذي فرض عليه اختيار لون لم يرده وحرمه من طموحات كان يتطلع إليها. كل هذا أوقع الممثل في علاقات تنافر مع أسرته (أطفاله وزوجته) وبات ضحية الايمان بالخرافات والشعوذة والسحر وسلوك طرقات غير سوية بحثاً عن توازن افتقده ولم يجده أيضاً في تعدد زيجاته التي أصيبت بالفشل.

إنها مأساة فنان امتلك موهبة لم تكن متوافرة إلا عنده. فهو أجاد كل الأدوار ببراعة وخفة ظل ولكنه لم يتوصل إلى اقناع أصحابه من منتجين ومخرجين في تقديمه إلى الجمهور بصورة أخرى. سلرز الإنسان كان بمثابة وعاء يستوعب كل الشخصيات ويتقمصها ولكنه كان من دون شخصية. فانعدام الشخصية الخاصة به ساعده على لعب كل الشخصيات. فالضعف كان مصدر قوة في حياته المهنية. والقوة كانت مصدر ضعف في حياته اليومية. وبسبب هذه الشخصية الهوائية تحددت أدواره في نسق واحد (الهزل) بينما كان في واقع الأمر هو ذاك الإنسان الذي يبحث عن شخصية من دون جدوى. وكانت النتيجة انه تاه في عالم آخر جعله يبتعد عن أسرته وينعزل مع نفسه محاولاً التكيف مع واقعه والقبول بما اعطي من نجاح وجاه وثروات وأجمل النساء.

هذا الصراع النفسي عطل على سلرز الكثير من الإمكانات والقدرات وجعله في النهاية يخضع للأمر الواقع مهنياً من دون أن يتنازل عن طموحاته التي لم تُفتح أمامها الطرقات

العدد 1517 - الثلثاء 31 أكتوبر 2006م الموافق 08 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً