العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ

الولايات المتحدة... الطفل ثقيل الحركة

من الاعتباطية المنظمة إلى الفوضى المنظمة

سمه ترنحاً سياسياً، وصولاً إلى حال من الخرف السياسي، لكنك لن تستطيع حينها أن تتعرف على الأميركيين كما يجب. عالم السياسة هو بالدرجة الأولى عالم من «التنبؤ» و«التوقع»، ولن تجد موضوعاً سياسياً كالولايات المتحدة ترصد فيه ذلك الكم الهائل من قواعد التحليل تلك.

الولايات المتحدة، والتي تمر بأهم مراحلها التاريخية بعد الحرب الباردة مازالت تحاول الوقوف على التشكيل الأمثل لسياستها الكونية، مازال الطفل الصغير الذي أصبح يمتلك العالم فجأة عاجزاً عن إيجاد حال التموضع الكوني المناسب، ومازالت السياسة الخارجية للولايات المتحدة تبحث عن صورة قارة وثابتة، ومازلنا نحن - وفق معادلات التحليل السياسي - ننتظر.

«النهاية المطلقة في وضع المحاربين في تشكيل عسكري هي غياب التشكيل. عندما يغيب التشكيل عن المرء، فإن الجواسيس والحكماء لا يستطيعون وضع إستراتيجية مضادة».

«صن تسو» في كتابه «فن الحرب»

تتمثل نظرية «الفوضى البناءة» باعتبارها إحدى التشكلات التي نشأت في سياق طبيعي منظم داخل المنظومة الاجتماعية الأميركية، والمتشكلة حديثاً. وفي هذه القراءة - معتمدين على هذا السياق المؤسس - نحاول سبر تلك النظم التي تتحكم بالقرار السياسي داخل أقوى دول العالم.

وابتعاداً منا عن التوصيفات «الكهنوتية» حيال السياسة الأميركية، فليست الولايات المتحدة رهينة «ليبرالية اقتصادية»، أو «تعاليم مسيحية»، أو «سلوكات إمبراطورية» فحسب. هي بالأساس فاقدة للتشكيل، لذلك يصعب علينا - سواء كنا جواسيس أو حكماء - أن نبني رؤية سياسية قارة وثابتة حيالها. ثمة قاعدة بيانات تتصف بالتعقيد والتناقض في إنتاج القرار السياسي الأميركي، هذه التناقضات تصب في مجرى واحد، هو نظرية الفوضى البناءة. على أن نظرية الفوضى البناءة هي تمثيل فهمنا لها، أو الصورة التي خرجت بها الولايات المتحدة لتعرف نفسها من خلالها، وليست بالضرورة هي الحقيقة التأويلية التي نبحث عنها أو نحتاجها.

هنا، نستطيع اعتبار الاعتباطية المنظمة داخل المؤسسة الاجتماعية الأميركية بمثابة الحاضنة الحقيقية لذهابنا جميعاً في التركيز على نظرية الفوضى البناءة على حساب ما هو أهم، هذا الأهم هو حقيقة «اللاتشكيل» في الإمبراطورية، هو التمثيل المباشر لنظرية «الاعتباطية المنظمة».

انعدام التشكيل في الإمبراطورية أفرز سياسة لم تكن موجودة قبل الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، وهي سياسة «ردة الفعل»، وليس انتهاج هذه السياسة وليد الملف العسكري فحسب، بل على أكثر من صعيد داخلي ودولي.

عندما نتحدث عن الولايات المتحدة من منظور أنها نموذج متقدم من «الليبرالية الاقتصادية» نستطيع أن نطلق الكثير من الشواهد والنظم، وأن نستدل بسلسلة طويلة من المؤسسات الاقتصادية الأميركية التي نجحت في خيار العولمة والكونية الحديثة.

هذه الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى نجحت في فرض وتيرتها، فيخيل لنا أن الولايات المتحدة ليست سوى حال تغول «اقتصادية» فقط، وهي فيما تقرره من سياسات وردود أفعال على الساحتين الإقليمية والدولية تدعم فرص تغولها الاقتصادي بحثاً عن أسواق جديدة تضمن لها قواعد استهلاكية تحتمل وتستوعب تلك القدرة الإنتاجية التي لا تتوقف عند حد.

من السهل أيضاً، أن نطلق العنان لهذا التأويل، ومن ثم نقوم بعملية تأويل جميع السياسات الأميركية في هذا السياق، لكننا، لن نستطيع أن نفهم الكثير من السياسات عبر هذا التأويل الكُلياني، فما الذي يغري الأميركيين «اقتصادياً» لدعم اقتصاد البرازيل المتهالك؟، وضخ مليارات الدولارات كلما أوشك هذا النموذج الاقتصادي «الهش» على السقوط.

هذا السلوك تحكمه تحديداً «السلوكات الإمبراطورية»، فليس للاقتصاد الأميركي مصالح إستراتيجية في الاقتصاد البرازيلي، مقارنة بذلك الاعتماد الاقتصادي البارز في الأرجنتين أو المكسيك.

السلوك الإمبراطوري يلزم الولايات المتحدة بدعم الكثير من دول القارة الأميركية الجنوبية، إذ إنها في الغالب دول قامت باتباع الإمبراطورية الأميركية سياسياً واقتصادياً، يعتبر الأميركيون فشل هذه الدول في تحقيق الاستقرار فشلاً للمنظومة السياسية الإمبراطورية الأميركية، لذلك تسعى الولايات المتحدة إلى ضمان حقيقة تاريخية تسعى لترويجها، وهي أنها «تمتلك أفضل منظومة سياسية/ اجتماعية/ اقتصادية للمجتمع العالمي».

وعليه، وفي خضم هذا الوضع الراهن بالخليج، يتضح لنا أن الحديث عن «خروج» أميركي من العراق، وعن انحسار قادم في دور الولايات المتحدة في المنطقة لا يزيد على مراهنة «فراغ» لا تدرك ما يجري هنا وهناك، ليس السلوك الإمبراطوري وحده ما يجعل الولايات المتحدة حريصة على البقاء والفاعلية في الخليج وفي مناطق أخرى من العالم، فأينما وجدت المصالح الأميركية سيكون للأميركيين وجود دبلوماسي وعسكري على حد سواء.

المؤثر الديني في التشكيل

معظم الخطابات السياسية الأميركية باتت مدعمة بالنصوص المسيحية، متزامنة مع اشتغالات ما بعد الحداثة في نموذجها الأكاديمي الأميركي، مضافاً لها مستويات التدين المرتفعة - 75 في المئة من الأميركيين يعتقدون أن العناية الإلهية هي من تحمي أميركا وليست صواريخها النووية -، ولن يكون لنا أن نفهم «الولايات المتحدة» بعيداً عن تأثيرات المكون «الديني» المباشرة على صقور الإدارة الأميركية، فالبقاء الإسرائيلي «ضرورة دينية» لا جدال فيها قبل أن تكون ضرورة إستراتيجية للأميركيين.

خلاصة القول في هذا البعد هي أن مجمل الخطاب السياسي الأميركي، خصوصاً فيما يتعلق بفلسفة البقاء الأزلي لجمهورية الرب، وفيما يتعلق بدمقرطة العالم، هو خطاب ينتهج البناء الإنجيلي التبشيري بوضوح، هذا التشكيل السياسي وإن كان أشبه بالحضور المستتر في الخطاب الأميركي، إلا أنه يلقى «مبالغات» كثيرة على صعيد القراءات العربية المتوافرة عن السياسة الأميركية.

ثيمة الإمبراطورية

لكن، ما معنى أن تكون الولايات المتحدة «إمبراطورية»، لنا أن نحيل بعضاً من السلوكات الأميركية على أكثر من صعيد لهذا السياق السياثقافي، وسنرى أن هذه الإمبراطورية لها ما يميزها عن بقية الأنماط التاريخية للإمبراطوريات الآفلة في الحضارات الإنسانية.

الإمبراطورية الأميركية، تتصف ببعض النقاط المهمة، أولاً/ هي إمبراطورية مصنوعة في زمكان معقد، قد يصعب أن تنشأ فيه إمبراطورية من الوزن الثقيل، فليس السلاح النووي هو ما جعلها تتبوأ هذه المكانة، وليس الاقتصاد المتنامي فقط، وليست التركيبة الاجتماعية ونظم الحريات. بل هو مزيج هذه العوامل مع بعضها بعضاً.

ثانياً/ السلوك الإمبراطوري الأميركي يتصف بأنه سلوك «عالمي» و»كوني». واستطاعت الإمبراطورية أن تجر معها مؤسسات المجتمع الكوني، لتكون شريكة في السلوك الإمبراطوري، هذا ما يحيل على أن الولايات المتحدة نجحت حتى اليوم، في أن تقنع وتُسير المجتمع الدولي لتبني مصالحها الإمبراطورية بطريقة ذكية.

عناصر التشكيل السياسي الأميركي

هذه التشكيلات المرجعية - التي سيتم بيانها - تعتبر آلة ضبط وتقويم وإنتاج لجميع الإستراتيجيات السياسية الأميركية، ولابد لنا أن نحيل أية رؤية سياسية أميركية على إحدى هذه المؤثرات أو القوى الضابطة.

قد تنشط في الخطاب السياسي الأميركي إحدى هذه التشكيلات السياسية، إلا أن هذا الخطاب غالباً ما يعمد إلى المزاوجة بين هذه التشكيلات، ليضمن إبقاء الخطاب السياسي الأميركي «مقنعاً» من جهة، وليكون أكثر قدرة على الرواج والانتشار من جهة أخرى.

هذا التمازج بين التشكيلات يصنع للولايات المتحدة خصوصيتها التاريخية، والتي تجعل منها حالاً فريدة على صعيد تحليل النماذج الإمبراطورية، هذه الحال من التمازج والتنوع المرجعي تضفي ديناميكية سياسية قادرة على احتواء أي من المستجدات السياسية على الصعيد الدولي بانسيابية، إلى جانب ضمان استجابة المجتمع الأميركي لهذه السياسات وتبنيه لها، وهذا ما تؤكده استطلاعات الرأي، على رغم بعض التأويلات والشروحات التي تتصف بالتقليل من فاعليتها وصدقيتها.

الولايات المتحدة لا تتصرف فعلياً على شاكلة الإمبراطوريات التقليدية، على سبيل المثال، فهي لا تعمد إلى احتلال دولة مجاورة كالمكسيك، بينما نقرأ في استطلاعات الرأي أن 75 في المئة من المكسيكيين يتمنون احتلال الولايات المتحدة لبلادهم!، كما أن المكسيكيات يتعمدن إلقاء أنفسهن على الحدود الأميركية ساعات الولادة، أملاً في الجنسية الأميركية!

الولايات المتحدة لا تعمد إلى احتلال المناطق الإستراتيجية بالمصالح الأميركية، بل هي في الغالب تعمد إلى صناعة وتحقيق وإبقاء نظم سياسية متحالفة تضمن النتائج المصالح السياسية والاقتصادية الأميركية.

الولايات المتحدة لا تتدخل عسكرياً، إلا في الحالات التي تعتقد أنها باتت تمثل خطراً مباشراً على المصالح الأميركية، إذ تضمحل خيارات «الحل الدبلوماسي»، وهي في الغالب لا تبحث عن صناعة ولايات جديدة، لا يمكننا أن نلصق بالولايات المتحدة تهمة السعي لـ «صناعة ولايات أميركية جديدة»، الذي حدث بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر أن بوصلة الإدراك السياسي لما يجري في هذه المناطق بدأت تعطي نتائج خاطئة على أكثر من صعيد، وكان العراق أكثر الطرق الخاطئة، التي دفع الأميركيون خطأها غالياً، راهن الأميركيون على الشيعة في العراق، وبالغوا في رهانهم، وهم اليوم في طريقهم إلى التراجع

العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً