العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ

«الشرق الأوسط الكبير»: مفهوم غامض لا معنى له

يتحدث التقرير الأميركي بشأن «الشرق الأوسط الكبير» عن نواقص ثلاثة توجد في هذا التكتل الهلامي (المطاطي) الممتد من الهند إلى المغرب وهي كما يراها أصحاب المشروع موجزة في نقاط ثلاث: الحرية، المعرفة، وتمكين النساء. ويخلص إلى تقديم سلسلة اقتراحات يرى أنها كافية أو على الأقل تساعد على التخفيف من حدة النواقص وتحد من إمكانات نمو ظواهر إرهاب وعنف في المنطقة والدول المطلة عليها.

التقرير فضيحة سياسية - خلقية بمختلف المقاييس التنظيرية والعملية. فهو مثلاً يتحدث عن كتلة يطلق عليها «الشرق الأوسط الكبير» بعمومية بلاغية من دون انتباه إلى وجود سلسلة اختلافات في عشرات الأنظمة التي تسيِّر هذه الشعوب الممتدة من الهند إلى المغرب. فهذه الدائرة واحدة ولكنها ليست موحدة في درجة تقدمها ونموها وهي متعددة في نماذجها وأدوات حكمها ووسائل عيشها وبالتالي من المستحيل جمع هذا القدر من الدول تحت عنوان واحد واسم واحد وأخيراً توصيف هذه الدائرة ضمن نمط واحد من التفكير والحلول.

التقرير أيضاً يتحدث عن منطقة وكأنها قطعة عقار تخضع للمقاييس نفسها والمشكلات نفسها. وأيضاً يتحدث عنها وكأنها كتلة بشرية معزولة عن العالم وقوانينه وظروفه وتقلباته بينما الحوادث تؤكد أن هذه الدائرة متحركة ومتفاعلة مع تحولات العالم وانقلاباته وصراعاته الدولية ومختلف التداعيات الناجمة عن تلك المتغيرات.

مشكلة التقرير أنه يعتمد كثيراًَ على التعميم من دون تدقيق، ويميل نحو التوصيف وقراءة النتائج وتغييب الأسباب وأخيراً تجهيل الفاعل وطمس المسئولية من خلال التباكي على وضع هناك شبه إجماع على مأسويته وسلبياته وثغراته وفجواته. فهذا الانهيار المريع والتداعي على مستوى التنمية الاقتصادية - البشرية ليس نتاج ساعات من الزمن بل نتيجة سنوات وعقود من التراكم السلبي.

فالتقرير يتعمد تغييب العامل الدولي (نظام العلاقات الدولية وشروطه) عن خلفية الصورة لتظهر المسألة وكأنها نتاج ثقافات محلية (دين وعادات وتقاليد) لا صلة للفضاءات الدولية في إنتاجها أو تشجيعها وتسليحها بعناصر القوة والمال.

رؤية قاصرة

التقرير مثلاً يتحدث عن نقص في إنتاج الكتب والترجمات عن لغات أجنبية (1,1 في المئة من الإنتاج العالمي)، ويشير إلى وجود 40 في المئة من الأميين، ويذكر أن 1,6 في المئة فقط يستخدمون الإنترنت، وأن الدولة تحتكر الإعلام وتسيطر على الصحف وتوجهها، وأن ربع الخريجين من الجامعات لا يجدون عملاً فيضطرون إلى الهجرة إلى بلدان أخرى، وأن معظم الشباب يريد السفر إلى الخارج بحثاً عن وظيفة أو لقمة رزق، وأن 3,5 في المئة من النساء يشغلن مناصب برلمانية بينما النسبة في إفريقيا تصل إلى 8,4 في المئة، وأن دخل الفرد في اليوم لا يزيد على دولارين، وأن مجتمعات "الشرق الأوسط الكبير" تعاني من نسبة نمو سكاني وزيادة في تعداد العاطلين عن العمل، وأن مجموع الدخل المحلي لدول "الشرق الأوسط الصغير" أقل من مجموع دورة الإنتاج السنوية لدولة أوروبية واحدة مثل إسبانيا.

وأن، وأن، وأن... والحل كما يذكر التقرير هو في "التنمية البشرية" وزيادة معدل دخل الفرد من دولارين إلى أربعة دولارات، ورفع نسبة النمو من 3 في المئة كما هو الحال الآن إلى 6 في المئة في المستقبل.

وحتى يحقق "الشرق الأوسط الكبير" مثل هذه الزيادة في الدخل وهذا المستوى من النمو يقترح التقرير سلسلة علاجات نظرية مثل دعوته إلى إجراء خطوات إصلاحية تشمل الديمقراطية، وتطوير مجتمع المعرفة، وتوسيع الفرص الاقتصادية، وإطلاق الحرية. والأخيرة تتضمن سلسلة اقتراحات نظرية أخرى من نوع التشجيع على الانتخابات الحرة، وإنشاء معاهد تدريب خاصة بالنساء للمشاركة في الحياة السياسية، وإصلاح النظام القانوني (المدني، الجنائي، والتشريعي) والدعوة إلى الشفافية ومكافحة الفساد.

هذا الكلام ليس جديداً إذ نجد ما يشبهه وأحسن منه في الكثير من أدبيات القوى السياسية ومنظمات حقوق الإنسان وهيئات المجتمع الأهلي والمؤسسات المدنية والاتحادية والنقابية. وهذا الذي تريد الولايات المتحدة تصديره الآن إلى "الشرق الأوسط الكبير" حاربته واشنطن طوال نصف قرن من السياسات الدولية.

معلومات قديمة

كتبة التقرير استخدموا معلومات قديمة وخلطوا الدول ببعضها بعضاً، وانطلقوا من النتائج وتجاهلوا الأسباب والمسببات، وأخذوا ما يعزز قناعاتهم المسبقة من دون تمييز بين البلدان واختلاف مستوياتها وأساليب حكمها ووسائل عيشها واستثماراتها.

وبسبب تلك المناهج جاءت الأرقام والمعادلات غامضة وتعوزها الدقة. فهناك كثير من الإحصاءات قديمة وبعضها يعود إلى عشر سنوات وأحياناً أكثر من عشرين سنة. ولم يقتصر الغموض على الأرقام بل شمل الاستنتاجات التي خضعت بدورها للسياسة وليس للوقائع. فالتقرير يتحدث مثلاً عن تشجيع الديمقراطية و"الحكم الصالح" ولا يعرف معنى تلك المصطلحات وكيفية تطبيقها منهجياً. والتقرير يتحدث أيضاً عن الفجوة الاقتصادية وضرورة توسيع فرص العمل ولكنه لا يطرح سوى بعض الصيغ البديهية من نوع وضع نظام للقروض وتسليف المؤسسات الصغيرة بمبلغ يتراوح بين 400 و500 مليون دولار يقسط على خمس سنوات.

هذا الكلام لا يجدي نفعاً في منطقة تملك المليارات من الدولارات مودعة في المصارف الأميركية والأوروبية. فالأموال العامة والخاصة التي تعود ملكيتها إلى شعوب المنطقة تقدر بأكثر من تريليون و400 مليار دولار. الودائع العربية في الخارج تقدر بأكثر من 1400 مليار من الدولارات والتقرير يتحدث عن قروض تتراوح بين 400 و500 مليون دولار أي أقل من نصف مليار دولار.

كتبة التقرير لا يتحدثون عن الودائع العربية وضرورة التشجيع على عودتها إلى بلدانها وإعادة استثمارها في مشروعات منتجة وقطاعات اقتصادية تتناسب مع حاجات السوق لسد ما يسميه التقرير الفجوة الاقتصادية وتأمين ملايين فرص العمل للطاقات الشابة أو للكتل المتعلمة التي تقذفها عشرات الجامعات سنوياً إلى سوق العمل ولا تجد مجالات محددة للتشغيل فتضطر إلى السفر بحثاً عن وظائف.

التقرير يتجاهل الودائع العربية الهائلة الحجم في البلدان الأوروبية وأميركا وإنما يتحدث عن قروض وديون لتمويل مشروعات تنمية على المديين المتوسط والبعيد، وعن إصلاح النظام المالي وخفض سيطرة الدولة على الخدمات المالية. فالتقرير يضغط لفتح الأسواق المالية العربية (أو الشرق الأوسط الكبير) لتدخل المصارف الأجنبية الضخمة إلى السوق تبدأ في منافسة المصارف المحلية وابتلاع ما تبقى من ثروات مالية وودائع لاتزال موجودة في المنطقة في محاولة لتسفيرها (تحويلها) إلى أوروبا وأميركا لتنضم إلى الـ 1400 مليار دولار الموجودة حالياً هناك.

نماذج عن الأرقام

معركة الأرقام مسألة مهمة في توضيح صورة الواقع العربي. فالأرقام الواردة في المشروع الأميركي تقول مثلاً إن ثلث "الشرق الأوسط الكبير" يعتمد على دخل يومي لا يتجاوز الدولارين. هذه الأرقام غير صحيحة وكذلك ليست واضحة. فعن أية دولة يتحدث المشروع، وما هي المنطقة التي يقصدها؟ كل الأرقام في معظم الدول العربية تشير - باستثناء الصومال - إلى أن ثلث السكان يزيد دخلهم على 730 دولاراً في السنة. وإذا كان التقرير يقصد أن "الشرق الأوسط الكبير" لا يعني الدول العربية فقط بل يضيف إليها "إسرائيل" وتركيا وإيران وباكستان وأفغانستان فإن المسألة تصبح أكثر تعقيداً. فهناك حالات متعارضة ومن الصعب جمعها كلها في دائرة اقتصادية واحدة نظراً إلى التفاوت الكبير في دخل الفرد بين أفغانستان والصومال من جهة وعشرات الدول العربية والمسلمة من جهة أخرى التي يزيد دخل الفرد فيها على تلك الأرقام.

التعميم في المشروع الأميركي مشكلة وكذلك غموض هوية المنطقة التي يقصدها. فهل الأرقام تشمل كل الدول الواقعة بين الهند والمغرب أم أنها تستثني بعض الدول العربية والمسلمة؟ وهذا "الثلث" الذي تحدث عنه التقرير أين يقع، وما الدول التي يتألف منها؟

التقرير يتحدث عن خطة اقتصادية تهدف إلى رفع دخل "ثلث سكان المنطقة" في فترة خمس سنوات من دولارين في اليوم (730 دولاراً في السنة) إلى أربعة دولارات في اليوم (1460 دولاراً في السنة) من دون أن يشير إلى المناطق وأسماء الدول. فهل يقصد التقرير بعض مناطق أفغانستان والصومال وموريتانيا واليمن أم أنه يقصد كل "الشرق الأوسط الكبير" ومن ضمنه السعودية وقطر والبحرين وإيران وتركيا؟

التقرير غير واضح لا في معانيه ولا في مقاصده ولا يشير إلى دول بعينها. فالغموض هو المسيطر وحين تسيطر العموميات على لغة الأرقام فمعنى ذلك أن واشنطن نفسها ليست جدية في طموحها (المشكوك فيه) بتحديث المنطقة وتطويرها.

كل الأرقام في المنطقة العربية على الأقل تشير إلى أن معدل دخل الفرد أعلى بكثير في المتوسط من 730 دولاراً أو 1460 دولاراً. والصومال هو البلد العربي الوحيد الذي يبلغ دخل الفرد فيه أقل من 730 دولاراً. إلى الاستثناء الصومالي (600 دولار في السنة) يمكن إضافة اليمن (820 دولاراً) والسودان (ألف دولار) وجيبوتي (1300 دولار). وهو أعلى من المعدل الذي يذكره التقرير.

لغة الأرقام تكشف عن وجود قراءة غير مفهومة في التقرير الأميركي، وتدل الأرقام على وجود مشروع سياسي وراء فكرة "الشرق الأوسط الكبير"

العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً