العدد 3864 - الجمعة 05 أبريل 2013م الموافق 24 جمادى الأولى 1434هـ

الجذور: البحث عن هوية دلمون

صناعة الفخار بين القبور الملكية الدلمونية في قرية عالي (Ferraresi 2012)
صناعة الفخار بين القبور الملكية الدلمونية في قرية عالي (Ferraresi 2012)

هناك العديد من الأسئلة حول دلمون تحتاج لإجابة، مثل: ما هي هوية دلمون؟ وما هي الأعراق التي أسست تلك الهوية؟ وهل تجذرت تلك الهوية، أم أن جذورها أجتثت فما عاد لها وجود؟

تلك الأسئلة وغيرها لا ندعي أننا سنجيب عليها في هذه السلسلة الجديدة من المقالات، إلا أننا سنحاول تبسيط سبل الوصول لإجابتها، فتبقى الطرق مفتوحة وميسرة للمهتم والقارئ. فعلى رغم وجود العديد من الكتب والدراسات التي تناولت وصف «حضارة دلمون» وبالتفصيل الدقيق والمطول، إلا أن غالبية هذه الكتب تضمنت نمطاً خاصاً في الكتابة اعتمد الخلط في المفاهيم والإسهاب في الوصف. وفي مثل هذه الدراسات «تتلاشى فيها هوية الحضارة» ولا سبيل إلى الوصول لتلك الهوية إلا بالقراءة والتحليل، فحتى الذين يتعمدون طمس الهويات الحضارية تركن إلى آليات خاصة في الكتابة تراهن على أن القارئ، في واقع الأمر، لا يقرأ، وإن تكبد عناء القراءة فإنه لن يتكبد عناء التحليل. وبالتالي يكون كل باحث عن أي هوية حضارية، لا يقرأ بتمعن، شريك في طمس الهوية التي يبحث عنها.

هناك أنماط ومدارس في كتابة التاريخ القديم فهناك النمط السردي وهناك النمط التحليلي. وكل نمط من هذه الأنماط يعطي تصوراً للتاريخ يختلف عن الآخر. فالمنهج السردي يقتصر على سرد الماضي وإعطاء وصف للحضارة بينما المنهج التحليلي يدمج الحاضر بالماضي ويعطي هوية للحضارة. ونتيجة للتداخل ما بين المنهجين يلتبس على القارئ العديد من المفاهيم، من مثل: عدم التفريق بين اسم الحقبة الزمنية للحضارة وهوية الحضارة نفسها، عدم التفريق بين وصف آثار الحضارة وبين العرقيات التي أوجدت تلك الآثار.

على سبيل المثال تعتبر «حقبة دلمون» هي الفترة ما بين 2300 ق. م. - 567 ق. م، وفي هذه الحقبة تعاقبت هويات حضارية مختلفة في البحرين، بينما «دولة دلمون» هو اسم لهوية حضارية معينة وجدت في البحرين في الفترة الزمنية ما بين 2200 ق. م - 1600 ق. م. ففخار دلمون وأختام دلمون وأوزان دلمون، هي نسبة لدولة دلمون (التي عرفت أيضاً باسم ثقافة باربار) وليست نسبة لحقبة دلمون.

المنهج السردي وإضاعة الهوية

النمط التجميعي السردي في كتابة التاريخ يعتمد على سرد الأحداث وتجميع أكبر قدر من المادة التاريخية الذي يؤدي لتراكم المعلومات الأولية التي تصلح كأرشيف. وتكون مخرجات هذا المنهج دراسات وصفية طويلة تختلط فيها المفاهيم على القارئ فلا يفرق بين الحقب الزمنية والهوية. ولا يقتصر الأمر على ضياع الهوية بل إن بعض الباحثين السرديين يخلط ما بين الوصف الأسطوري والوصف الآثاري، وفيما يتعلق بتاريخ دلمون، يبدأ «السارد» بأسطورة خلق دلمون وبعدها أسطورة جلجامش ثم وصف الأطلال وربط ذلك الوصف بحضارة وادي الرافدين. تلك هي دلمون، أطلال وأساطير مرتبطة بوادي الرافدين، فماذا بعد.

المنهج التحليلي وإشكالية المصطلح

في مقابل المنهج السردي هناك المنهج النظري التحليلي، فلا يجب أن يكتفي الباحث بوصف الأثر أو بقايا المواد الطينية الأثرية، بل يجب أن تعطى تلك الآثار وتلك المواد هوية محددة تعكس عرقيات الهويات التي خلفتها. وقد اُستحدث علم خاص بدراسة هوية المواد الأثرية وبالخصوص تلك المصنوعة من الطين وهو علم الإثنوأركيولوجيا ethnoarchaeolog. وملخص فكرة هذا العلم أن الباحث أو المنقب يحاول استنطاق القطع الأثرية التي يعثر عليها ليتعرف على ثقافة الشعوب القديمة وذلك باستخدام معلومات قام بجمعها من الشعوب المعاصرة. وتعتبر المواد المصنوعة من الطين كالفخار والسيراميك من أفضل تلك القطع الأثرية التي تعطي دلالات ثقافية. لكن الإشكال في المنهج التحليلي هو الخوض في مصطلحات مثل هوية الحضارة، الجماعة الأصلية المؤسسة للحضارة، الثقافة المحلية، التثقف من الخارج، الإقصاء الثقافي. إن الخوض في مثل هذه المصطلحات ينتج عنها عملية قراءة للماضي ولكن بنظرة الحاضر؛ أي عملية إسقاط التحليلات للتاريخ القديم على الأوضاع المعاصرة، فالكتابة التاريخية التحليلية تركز على «حلول الماضي في الحاضر وتكييف الحاضر للماضي» (العروي 2000، ج1 ص20).

الهوية الضائعة بين السرد والتحليل

هناك نوع من الصراع الخفي بين كتاب «تاريخ دلمون»، فهناك من يعتمد على السرد وأسلوب الأرشفة ويتفادى الخوض في تحليلات معينة لكي لا تحدث عملية إسقاط لتلك التحليلات على الحاضر. وهناك كتاب آخرون يتحدثون بكل حرية عن «هوية دلمون» والعرقيات التي أسست هذه الهوية. نادراً ما نسمع عن هذا الصراع، وتعتبر هيا آل ثاني من الكتاب القلائل الذين صنفوا الباحثين الذين كتبوا عن دلمون فوصفت بعضهم بالكتاب «ضيقي الأفق» وهم الذين كتبوا عن دلمون لكنهم لم يعطوها هوية محددة بل اعتبروها امتداداً لحضارة وادي الرافدين، ووصفت البعض الآخر منهم بالكتاب «المنفتحين» وهم الكتاب الذين كتبوا عن جماعات محلية وجماعات مؤسسة وعملية تثقف من الخارج وعملية انصهار بين جماعات عرقية مختلفة كلها أدت لنشأة دلمون على أرض البحرين (آل ثاني 1997: ص 260 - 263). وعليه فإن أول خطوة في عملية البحث عن «هوية حضارة دلمون» هي القراءة والتحليل وهي الخطوة الأصعب وخصوصاً في ظل سيادة ثقافة «النظر إلى الصورة والكتابة» دون تمعن.

العدد 3864 - الجمعة 05 أبريل 2013م الموافق 24 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً