العدد 3899 - الجمعة 10 مايو 2013م الموافق 29 جمادى الآخرة 1434هـ

أحمد الزين يستقصي شعرية الأسماء والأماكن في بيت العريض

هكذا راقَ لموقد الروافد الأديب اللبناني أحمد علي الزين أن ينسج ذاته عبر نصوص وشخوص وأماكن ربما عدها في يوم من الأيام نصوصاً لغيره فتاهت منه، لكنه بالتأكيد وجدها الآن نصّاً خالصاً له هو، بعد نفثة مراوحة وحرقة مكابدة، وعلى رغم لعبة الإحالة التي يقدّم بها قراءته مؤكداً أنه لم يعد يدري! أهو كاتبها حقّا أم الآخرون؟ إلا أن بصمة ممهورة في كل حرف تحيلك إلى إيقاع للزين ونبرة خافتة مرة، وجهورة مرة أخرى، تشعرك أن الزين يقبع في هذه النصوص، لكثرة ما اعتادت الأذن على سماعه وهو يتلو أسئلته على ضيوفه وروّاد روافده وكأنه يسمعك الشعر في كل استفهام يسوقه بين أيديهم.

هكذا تتلقاه دائماً مهجوساً بين الآخرين شاعراً أكثرَ منه مستفهماً، يظل يبحث عن سر الجمال في نصوص مريديه، وعن الشاعرية في أماكنهم فيروح ينسجها أمامك كحكاية محبوكة بإتقان تماماً كما يفعل الآن في بيت الشاعر إبراهيم العريض وسط لفيف من الأدباء والمثقفين في أمسية ضافية أشعلها بأطياف شخوص استدعاهم على طريقته فشغلنا بهم واحداً واحداً من بين أوراق دفتره الذي ضاع فوجده في ذاكرة عابرة ببقايا صور، فحضر بيننا عروة والحلاج وأبو فراس والمتنبي، والمعري ودرويش وممدوح عدوان وآخرون بما يحيلك إلى أن ثمة رغبة جامحة لاستضافتهم هنا وفي هذه اللحظة الشعرية ولكن على طريقة روافد كما يحلو للزين أن يستحضر مريديه دائماً.

وكعادته في ابتسامة هامسة أخذ يسرد بنبرة من الشعر «ظننت أني كتبت شيئا على دفتر ضاع، كتبت عليه أول ما كتبت على الصفحة الأولى الفاتنة البياض والملمس، كتبت اسمي واسم أبي وأمي واسم نبع الماء الذي كنت أشرب منه ويشرب منه الطير والسابلة، رسمت بقلم الرصاص على الصفحة التالية شجرة سميتها غابة، جعلت عليها عصفوراً وفوقها تمر سحابة، ثم كتبت يوم ولدت وتركت بياضاً احتياطيّاً ليوم آخر يكتب عليه غيري شيئاً حدث لي كحضور مباغت جعلني عاجزاً عن الكتابة كأنه النسيان، تهيّأ لي ذلك أني فعلاً كتبت، وضاع مني دفتري، وحين حاولت أن أتذكر وأغمضت عيني تصاعدت من أعماقي الغيوم متدافعة من الحسرات، وتهيأ لي أني بت غيري ومات، مرة مالك بن الريب المازني، ومرة عروة بن الورد، ومرة الحلاج، ومرة امرؤ القيس، ومرة أبو النواس، ومرة المتنبي، ولكن بدون خيل، ومرة كنت راعيا يغني ليؤنس وحشته، ويطرب غنمه، وكنت، وكنت غيري كثيراً، رحت أبحث عن الدفتر في ركامات النسيان، فبان لي بين السهو والصحو شجرة كالتي رسمت، شجرة تلوح وحيدة على تل، هي ليست شجرة كاملة، شجرة من دون ظل تصميم أولي لشجرة، الأشياء التي لا ظل لها ملبدة بالهموم شجرة على تل علقت عليها دفاتر كثيرة، كتلك التي اقتنيناها، نظن جميعاً، صغاراً في المدرسة، نحملها في المزود كأنها منام، رحت أتناولها دفتراً دفتراً، بدا لي أني كنت أقطفها قطفاً كحبات تفاح، كانت الدفاتر فعلاً بعد القطف تصير شيئاً آخر، مرة تفاحاً، ومرة ورداً، وحينا تحرق أصابعي فأرميها جمراً، وحيناً تفرّ للتو من يدي فأراها طيراً، وبعضها كان يصبح رملاً، يتسرب من بين أصابعي، (تصبح كمشة اتراب، ذكرتني بشاعر يقول هالدنه ورشه، واترابها كمشه، في اتراب بعده اتراب وفي اتراب عم يمشي)، وحيناً أفتح لها أصابع يدي فتصبح قطرة ماء، وتلك العالية التي لم أستطع أن أطالها، صرت أهز الشجر لتتساقط، فكان يتساقط منها ما يشبه الحروف، وأسمع لها رنيناً، كأنها خواتم ذهب تتدحرج على رخام دير مهجور، ... الله شو حلو الرنين، ذكرني بقصيدة لا أعرف قائلها، (اسمك خاتم ذهب رن على رخام الزمان دق اجراس ابحلب وابحمص رفعوا الأذان الله شو حلو اسمك لما وشك مثل الصبح بان).

تهيأ لي أني كتبت وضيعت كل دفاتري بين البيت والبين، فرحت أجول في بالي وفي البلاد لأعثر على الذي كنت فقلت كما قال شاعر سأصل إليه بعد حين أطلق غرائزك، الخيام خديعة، والشعر أن تهذي، وتصقل سرجك، الأسفار بيتك، والنبوءة أن ترى في الغيم خطوتك، أطلقت لغريزتي أن تقتفي أثري ودفتري، ومشيت سمعت صوتاً في البعيد على تخوم حلب، يردد وكيف التذاذي بالضحى وأصائلي إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبا، يذكرني وصلاً كأني لم أفز به، وعمراً كأني كنت أقطعه وثبا، لقد دونت هذا الكلام ربما بأخطائه، على دفتري من زمان أعرفه هذا الكلام فتخيلت الفارس القتيل على حصانه يمر في أسواق حلب التي حرقت قبل أيام حيث كان يتسكع وقصيدته هناك قبل ألف عام، وهناك ربما قال أبلى الهوى أسفاً يوم النوى بدني، وفرق الهجر بين الجفن والوسن، روح تردد في مثل الخلال إذا أزاحت الريح عنه الثوب لم يبن، كفى بجسمي نحولاً أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني.

العدد 3899 - الجمعة 10 مايو 2013م الموافق 29 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً